المركزي الأميركي ضد خبراء المال

كينيث روغوف | Kenneth Rogoff ،

نشر في 06-09-2007
آخر تحديث 06-09-2007 | 00:00
أتوقع الآن سلسلة من التخفيضات في أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفدرالي، وهو ما لا ينبغي لنا أن ننظر إليه باعتباره ترضية أو تدليلاً لأسواق الأصول، بل باعتباره اعترافاً بأن الاقتصاد الحقيقي يحتاج إلى المساعدة.
 بروجيكت سنديكيت في خطابه الذي ألقاه في الحادي والثلاثين من أغسطس أمام مؤتمر السياسة النقدية السنوي الأكثر أهمية على مستوى العالم، والذي انعقد في مدينة جاكسون فيل في وايومنغ بالولايات المتحدة، شرح بن بيرنانكي رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأميركي) بهدوء الأسباب التي تكمن وراء إصرار البنك على مقاومة الضغوط الرامية إلى تثبيت أسعار الأسهم وأسعار الإسكان. كان هذا الموقف المبدئي الذي تبناه بيرنانكي -والذي تبناه أيضاً جون كلود تريشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي ومارفن كِنغ رئيس بنك انكلترا المركزي- سبباً في إثارة عاصفة قوية في الأسواق، التي تعودت على التدليل المفرط الذي أغدقه عليها ألان غرينسبان سلف بيرنانكي.

مما لا شك فيه أنها مقامرة خطيرة، نظراً إلى المبالغ الهائلة التي تنتظر مصيرها في السوق المالي العالمي التي تبلغ قيمتها 170 تريليون دولار أميركي. فالمستثمرون الذين كانوا ينظرون إلى غرينسبان باعتباره «ستراً وغطاءً» لهم لا يبخلون عليه الآن بمئات الآلاف من الدولارات في مقابل أحاديثه وخطبه التي يلقيها والمقابلات التي تجرى معه. ولكن من منهم على حق، بيرنانكي أم غيرنسبان؟ رؤساء البنوك المركزية أم الأسواق؟

قد يساعدنا الرجوع إلى الأصل التاريخي الفكري في وضع هذه المناقشة الدائرة اليوم في سياقها الصحيح. كان بيرنانكي، الذي تولى رئاسة مجلس الاحتياطي الفدرالي في العام 2006، قد بدأ عمله السياسي في عام 1999 ببحث رائع قدمه إلى المؤتمر نفسه الذي تستضيفه قاعة جاكسون. فمن منطلق خبرته كرجل أكاديمي زعم بيرنانكي أن البنوك المركزية لا بد أن تتوخى الحذر الشديد في إعادة تقييم أسواق الأسهم العالمية الهائلة الحجم. وأنها لا بد أن تتجاهل التقلبات في أسعار الأسهم والإسكان، ما لم يكن هناك دليل واضح على حدوث ردود أفعال قد تضر بالناتج أو تؤدي إلى التضخم.

أنصت غرينسبان بصبر وهدوء إلى منطق بيرنانكي. إلا أن مذكرات غرينسبان، التي ستنشر في وقت لاحق من هذا الشهر، سوف تدافع بقوة عن قراراته الشهيرة بمساعدة أسواق المال بتخفيض أسعار الفائدة بصورة حادة في الأعوام 1987، و1988، و2001، بزعم أن العالم كان سينهار لو لم يفعل ذلك.

في ظاهر الأمر، تبدو وجهة نظر بيرنانكي سليمة وغير قابلة للجدال على المستوى الفكري. ذلك أن محافظي البنوك المركزية لا يستطيعون تفسير أسعار الأسهم والإسكان وتحركاتها على نحو أفضل من المستثمرين. فضلاً عن ذلك فإن بيرنانكي يدرك، كما يدرك أي شخص غيره، أن أياً من النصوص الأكاديمية الزاخرة لم يقترح أي دور كبير لأسعار الأصول في تحديد السياسة النقدية، إلا في مواجهة صدمات غير عادية من شأنها أن تؤثر على الناتج أو تؤدي إلى التضخم، مثل الأزمة العظمى في ثلاثينيات القرن الماضي.

باختصار، لا يستطيع محافظ أي بنك مركزي أن يتحول إلى كاهن أو عراف. والحقيقة أن العديد من خبراء الاقتصاد الأكاديميين يرون أن محافظي البنوك المركزية يمكن أن نستبدل بهم حاسبات آلية مبرمجة لتنفيذ قاعدة بسيطة تتلخص في تعديل وضبط أسعار الفائدة بصورة آلية في استجابة للناتج والتضخم.

ولكن على الرغم من الدقة الشديدة التي تتمتع بها رؤية بيرنانكي نظرياً، فإن الواقع ليس على القدر نفسه من الدقة. فمن بين المعضلات التي تواجهنا في هذا السياق أن النماذج الأكاديمية تفترض أن البنوك المركزية قادرة بالفعل على «التعرف» على تطورات الناتج والتضخم في حينها. إلا أن البنوك المركزية في الواقع العملي تعتمد على مقاييس غير واضحة في أداء هذه المهمة. فمنذ شهر واحد، على سبيل المثال، رأينا كيف خفضت السلطات الإحصائية في الولايات المتحدة تقديراتها للناتج الوطني في عام 2004!

وتشتد المشكلة سوءاً في أغلب الدول الأخرى. فالبرازيل، على سبيل المثال، تستخدم الزيارات إلى عيادات الأطباء لقياس ناتج القطاع الصحي، بصرف النظر عما يحدث للمريض. وما زالت هيئة الإحصاء في الصين غارقة في مستنقع الحسابات الشيوعية للدخل والناتج.

حتى قياس التضخم قد يكون في غاية الصعوبة. فماذا قد يعني استقرار الأسعار في هذا العصر الذي يشهد نزول الجديد من السلع والخدمات إلى الأسواق في كل يوم، وبمعدلات أسرع من أي وقت مضى؟ لقد حاول خبراء الإحصاء في الولايات المتحدة «تعديل» مؤشر أسعار المستهلك بحيث يشتمل التقدير على المنتجات الجديدة، إلا أن العديد من الخبراء يعتقدون أن قياس التضخم في الولايات المتحدة ما زال أعلى مما ينبغي بنقطة مئوية واحدة على الأقل، وأن هامش الخطأ قد يكون أكثر تقلباً من التضخم التقليدي المرتبط بمؤشر أسعار المستهلك ذاته.

إذاً، فعلى الرغم من إمكاني تشغيل السياسة النقدية آلياً من حيث النظرية، كما يقرر الحاسب الآلي، على سبيل المثال، حجم المهملات الذي تتسع له سلة المهملات وحجم المهملات الواجب التخلص منها إلى الأبد، وعلى الرغم من تقلب أسعار الأسهم والإسكان، فإن البيانات الخاصة بها أكثر دقة وتحديثاً من البيانات كلها المتاحة في ما يتصل بالناتج والتضخم. وهذا هو السبب الذي لا بد أن يدفع محافظي البنوك المركزية إلى التفكير في التضخم باعتباره جزءاً لا يتجزأ من أسعار الأصول.

الحقيقة أن ما شهدناه هذا الصيف من تصحيح أسعار الأصول يعزز من النظرية التي يتبناها العديد منا بالفعل والتي تؤكد أن اقتصاد الولايات المتحدة كان في تباطؤ، نتيجة لتدني معدلات الإنتاجية وتدهور سوق الإسكان. وأنا أتوقع الآن سلسلة من التخفيضات في أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفدرالي، وهو ما لا ينبغي لنا أن ننظر إليه باعتباره ترضية أو تدليلاً لأسواق الأصول، بل باعتباره اعترافاً بأن الاقتصاد الحقيقي يحتاج إلى المساعدة.

إن علاقة البنك المركزي بأسواق الأصول قد تشبه على نحو ما علاقة رجل ما بفن الباليه، فهو يزعم أنه ذاهب لحضور حفل باليه لكي يستمتع وليس لإرضاء زوجته. إلا أنه يضيف جملة رخيصة بعد ذلك فيقول إنه لا يسعد إلا بسعادة زوجته. الآن، وبعد أن انتهى شهر عسل بيرنانكي كرئيس لبنك الاحتياطي الفدرالي فربما نراه قريباً وقد أحس بالشعور نفسه.

* كينيث روغوف | Kenneth Rogoff ، أستاذ علوم الاقتصاد والسياسة العامة بجامعة هارفارد... وكان يشغل منصب كبير خبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top