في معاني تحديث الحزب الحاكم بمصر
لا يملك الحزب الوطني مؤشرات حقيقية على درجة القبول أو الرفض الشعبي لسياساته العامة ورموزه بمستوياتها المختلفة ولا يمكنه أن يفصل على وجه الدقة بين من يصوت لمرشحيه طوعاً ومن يقدم صوته لأسباب قسرية تتنوع هويتها.جاء مشهد الانتخابات المحليات المصرية عبثياً بامتياز، فقد غاب عنها كل عناصر العملية الانتخابية، المرشحون المتنافسون والناخبون والمراقبون بل غاب العدد الأكبر من المقاعد بعد أن فاز الحزب الوطني الحاكم بما يزيد على %90 منها بالتزكية. وربما كانت أطرف لقطات المشهد الانتخابي تسجيلاً لعبثيته هي تلك التي تداولتها بعض الفضائيات لقيادات الحزب الوطني وهي تتابع سير الانتخابات في غرفة عمليات أعدت لهذا الغرض وامتلأت بأجهزة الكمبيوتر وبشباب ظهروا مرتدين ما يشبه الزي الحزبي الموحد (قمصان طبع عليها اسم وشعار الحزب). فها نحن أمام انتخابات لم ينافس فيها «الوطني» سوى نفسه وحسمت نتائجها مسبقاً وفرغت بالتبعية من المضمون والأهمية، إلا أن إخراجها الإعلامي حتم على القيادات وشباب الحزب الحاكم المخلصين أن يبدو كمن يتابعونها بوجل وترقب.إلا أن لقطة غرفة العمليات، بجانب طرافتها، لا تخلو كذلك من محتوى كاشف لرؤية الحزب الوطني ولأسلوب إدارته لدوره السياسي، «الوطني» يعلن منذ سنوات أنه يحدث من بنيته الداخلية وقواعده وإطاراته التنظيمية وآليات الانضباط الحزبي، وللموضوعية أنجز بالفعل بعض هذه المهمات. إلا أن غياب المنافسة السياسية عن الانتخابات واعتماد الحزب المستمر على ترسانة جهاز الدولة بكل ما تحويه من أدوات القمع المباشر وغير المباشر للتلاعب بنتائجها يحرمه دوماً من فرصة الاختبار الفعلية لانعكاسات الإجراءات التحديثية على أدائه. لا يملك الحزب الوطني، وعلى نقيض أحاديث مضحكة لبعض جهابذته عن استطلاعات لقياس تفضيلات الناخبين تجرى بانتظام، مؤشرات حقيقية على درجة القبول أو الرفض الشعبي لسياساته العامة ورموزه بمستوياتها المختلفة ولا يمكنه أن يفصل على وجه الدقة بين من يصوت لمرشحيه طوعاً ومن يقدم صوته لأسباب قسرية تتنوع هويتها. كذلك ليس باستطاعته أن يقيس تداعيات، إيجابية كانت أم سلبية، التغير في السياسات أو الأشخاص أو استراتيجيات التواصل مع الرأي العام. وكل هذا يمثل جوهر وقلب عملية تحديث الأحزاب السياسية، فطاقتها المحركة وغايتها هي صناعة وتنفيذ أفضل لبدائل السياسات العامة ودرجة قبول شعبي متصاعدة دعامتها قواعد ناخبة مستقرة والتخلص من القيادات غير الناجحة أو المرفوضة شعبياً على نحو يحسن في التحليل الأخير من أداء الحزب ويزيد من قدرته على المنافسة وعلى الفوز الطوعي بالانتخابات.ولأن الحزب الوطني يتمتع بوضعية «الحزب فوق المنافسة» ولا يحتاج كفائز أبدي لأي مما سبق، بل لا يرغب في أن ينفتح جدياً على مثل هذه السياقات، فإن إجراءاته التحديثية تجرد في شقها الأكبر من المضمون وتختزل في ديكورات مؤسسية (أمانات جديدة، لجان للمتابعة الدورية، مؤتمرات سنوية) وجهد مستمر لصياغة صورة ظاهرها الحداثة عن الحزب ورموزه وسياساته يخاطب بها في كثير من الأحيان الرأي العام العالمي قبل الداخلي. من هنا غرفة العمليات وأجهزة الكمبيوتر وزي الشباب الموحد.كتبت في الجملة السابقة أن وضعية الحزب الوطني كفائز أبدي تجرد الإجراءات التحديثية في شقها الأكبر من المضمون، فما المضمون الأصغر المتبقي؟ هو باختصار أن أحد أبعاد التحديث قد ارتبط باجتذاب بعض الكفاءات الإدارية والمهنية المتميزة للحزب ثم تم تباعاً ضخها إلى جهاز الدولة التنفيذي على نحو حسن من صناعة وتنفيذ السياسة العامة في بعض القطاعات الاقتصادية والخدمية بالأساس. إلا أن هذا الأمر لا يلغي وجود جموع من الفاسدين والمنتفعين وترزية القوانين في كل مستويات «الوطني» من أعلاها إلى أدناها. كما لا يعني أن له أي علاقة بالجوهر الديموقراطي لتحديث الأحزاب، فذلك هو الغائب الأكبر عن الحزب الوطني ورؤيته ودوره وغرفة عملياته.* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي للسلام - واشنطن