من مي زيادة الى غادة السمّان الحبّ في تجلّياته الأدبية
اشتهر العالم العربي بالشعر الغزلي وقصص الحب التي دوّنت في الكتب التراثية ونتج عن بعضها المثل القائل «ومن الحب ما قتل»، ذلك أن الكثير من المحبين صرعوا محبيهم، فالشاعر ديك الجن الحمصي أحرق حبيبته ووضع رمادها في زجاجة ويتميّز الحب عند الكاتب صادق جلال العظم في كتابه «في الحب والحب العذري» الذي ترك أثراً هاماً على تاريخ الإنسان وأدبه وفكره كونه شقياً تعيساً يائساً.
إنه الحب الذي لا يعرف النهايات السعيدة لأنه حليف المآسي وقرين الموت والدمار. أما الحب المتوّج بالسعادة والكتفاء، في حال كان موجوداً، فإنّه لم يلهم أحداً من كبار الشعراء والكتاب ولم يحرّك أي مشاعر عميقة تستحق التدوين.الحب قرين التعاسة، هذا ما يرد في بعض الكتابات، فالاديبة مي زيادة اشتهرت بعلاقتها مع جبران خليل جبران من خلال الرسائل المتبادلة بينهما. يوم أرسلت مي الرسالة الأولى الى جبران كانت في السادسة والعشرين. لم تخرج عن حدود الورق وبالتحديد ورق الرسائل لسنوات، هذا ما يبينه فاروق سعد في كتاب «السرّ الموزع للآنسة مي». لئن احتفظت مي برسائل جبران الست والثلاثين، التي صدرت في كتاب بعنوان «الشعلة الزرقاء»، كان جبران عزاؤها الوحيد في أحلك أيامها، وُجدت بين أوراقها صورة له كتبت عليها بالانكليزية «هذه مصيبتي منذ أعوام». يبدو أن رسائل جبران سحرت مي وجعلتها تتعلّق به أكثر.كنارحين كانت في الخامسة عشرة كانت لا تزال تدرس في مدرسة راهبات الزيارة في عينطورة، انتحلت اسم «كنار» لتوقع به رسائل غرامية وترسلها الى ابن عمها نعوم الذي كان يتعلم في مدرسة مجاورة. كان ابن عمها يبادل المرسلة كنار رسائلها من دون أن يدري هويتها الحقيقية. ربما كان يدري وكتم الأمر الى حين، ولعلّه كان يضع مراسلته تحت الاختبار. خطبها في ما بعد، في أواخر حزيران(يونيو) عام 1905 حين قدم والدها الى لبنان للاحتفال بخطبتها. بدت يوم الاحتفال سعيدة ووجدت في الاحتفاظ بشرعية علاقتها بنعوم تحقيقاً لاستقلالية شخصيتها وتأثرت بلطف ابن عمها ثم أصيبت بخيبة أمل دعتها الى إلغاء الخطبة في أواخر صيف 1905، إذ تبين لها أن نعوم كان يستكتب صديقه يوسف الحويك لتدبيج رسائل حب تستهويها وترضيها لعجزه عن ذلك. ثمة أسماء كثيرة في حياة مي العاطفية، لكن بقيت شهرتها مع الأدباء الذين كانوا يقصدون صالونها الأدبي ليجدوا فيها نبض الحياة، فهي عروس زفوها الى ألف حبيب. في الرسائل الموجهة من أحمد لطفي السيد الى مي تستوقفنا عبارات: «جاءني كتابك فشممته ملياً وقرأته هنيئاً مريئاً». لم يكن فعل السيد يقتصر على شمّ رسائل مي فحسب، في إحدى رسائله يخاطبها: «أنا لا أطرد الطيور إكراماً لخاطر كنارك الصغير ولا أهيج الحمام إكراماً لما اشتهر به من معنى الوفاء، وحسن العشرة، (...) فطالما أصليت صغار الطير ناراً حامية من بندقيتي لا لآكل لحمها، بل لألعب بالنفوس البريئة التي هي مثلي لها حق في الحياة»! شعرت مي بحرج كبير إزاء رسائل السيد، لكنها كانت تتجاهل الأمر وتسكت عن الجواب.تحت قدميك كان ولي الدين يكن احد أولئك الأدباء الذين ربطت بينهم وبين مي صداقة وطيدة. لم يقف الامر على الاعجاب بل تجاوزه الى الهيام وعقدة الشعور بالاضطهاد العاطفي الى درجة جعلت يكن يكتب على صورة فوتوغرافية له أهداها الى مي: «كل شيء يا مي عندك غال/ غير أني وحدي لديك رخيص». كانت مي تشعر بعشق ولي الدين وصدق عاطفته نحوها، لكنه لم يلق تجاوباً منها ولم يغضبها ولم يحرجها، كان يسرف في التذلل لها الى درجة التصريح بتقبيل قدميها بكل إجلال، ختم رسالته المؤرخة 4 تشرين الثاني(نوفمبر) عام 1915 بعبارة: «أقبّل الأقدام بكل إجلال». أما مصطفى صادق الرافعي فزارها للمرة الاولى في صالونها عام 1923 وكان في الثانية والاربعين. بالغ بعض الكتاب في وصف مشاعر الرافعي تجاه مي، ذكر كامل الشناوي في كتابه «الذين أحبوا مي»، أن الرافعي «جن بمي غراماً وفكّر أن يتخذها ضرّة لزوجته، بل انه كتب أوراقاً ظن أنها تجلب له قلب مي وتحببها فيه وعلّقها على سارية في أعلى منزله». نشير هنا الى أن خليل مطران وانطوان الجميل رغبا في الزواج من مي وأخفقا إذ ظلا في حياتهما عازبين مثلها! أما علاقة عباس العقاد بمي فزاخرة بالمزاعم والتناقضات بين رواية وأخرى. جبرانعلى رغم صيت مي في العلاقات مع الأدباء والمفكرين لم يقدّر لها الزواج، بعد صدمتها العاطفية الأولى في خلال سنوات مراهقتها بانصراف ابن عمها جوزف الى متابعة دراسة الطب وفشلها في خطوبتها من البديل شقيقه نعوم. لم تجد بين معارفها من يستحقها سوى جبران، الا أن علاقتهما الغرامية كانت قائمة على الوهم. كان جبران يجد فيها امرأة شرقية متفهمة وأديبة محبة، فكان يجد فيها نوعاً من التعويض عن علاقاته النسوية غير السوية، في نيويورك وأماكن أخرى. غسان كنفانيكانت مي سراً موزعاً بين الأدباء عصياً على الفهم، بل كانت صدمة في الحياة الثقافية، لكنها لم تصل الى مستوى «الصدمة» التي احدثتها غادة السمان عندما نشرت رسائل الاديب الفلسطيني غسان كنفاني اليها (اغتالت اسرائيل كنفاني في منطقة الحازمية في بيروت عام 1973). كانت علاقة غسان مع غادة في نهاية الستينات من الأمور المعروفة في بيروت وفي الأوساط الأدبية. تقول غادة إنها قررت نشر رسائل غسان لها بحجة أنها تساهم في ترسيخ «إنسانية فكرة الشهيد» أو إماطة «أقنعة التزوير للمشاعر البشرية» أو رسم «صورة المناضل من الداخل»، لكن محازبي كنفاني (المناضل) اعتبروا أنّ سوق كلّ هذه التبريرات وصياغتها في مقدمتين للكتاب يدلُّ على أنها ترد سلفاً ومقدماً على جملة اعتراضات أو اتهامات تتوقعها من وراء نشر هذه الرسائل. يقول احدهم أنّ طبيعة العلاقة التي تكشفها تلك الرسائل لا تشير بأي حال إلى علاقة حب متبادل بين الطرفين، بل إلى حبّ من طرف واحد هو طرف غسان كنفاني، حبّ أفقده توازنه. يقول لها في إحدى رسائله: «تعرفين أنني أتعذب وأنني لا أعرف ماذا أريد، تعرفين أنني أغار وأحترق وأشتهي وأتعذب. تعرفين أنني حائر وأنني غارق في ألف شوكة برية، تعرفين ورغم ذلك فأنت فوق ذلك كله تحولينني أحيانا إلى مجرد تافه آخر». ويقول في رسالة أخرى: «لا: ليس ثمة إلا أنت، إلى أبدي وأبدك وأبدهم جميعًا، وسأظل أضبط خطواتي وراءك حتى لو كنتِ هواء». أو: «دونك أنا في عبث» (...) «إنني على عتبة جنون، لكني أعرف قبل أي إنسان آخر أن وجودك معي جنون آخر له طعم اللذة». أو: «يا من قبلك لم أكن، وبعدك لست إلا العبث، بعدك ليس إلا الخواء، دونك لست إلا قطرة مطر ضائعة في سيل».أنوثةمن سياق الرسائل أيضاً نفهم أن ثمة صراعاً كان ناشباً بين الأنثى والكاتبة في غادة السمان، كان غسان يصفها بأنها «امرأة حتى كعب حذائها». يخاطبها «أيتها المرأة قبل أن تكوني أديبة وكاتبة». كان غسّان يحاول أن يدفع صاحبته نحو الانحياز إلى الكاتبة فيها، يكتب مرة ضارعاً إليها أن تكتب له:«أكتبي أيتها الحلوة الذكية، تمسكي بهذا الشيء الذي يستطيع أن يكون درعك إلى الأبد أكثر مما يستطيع أي رداء مبتكر وقصير أن يفعل. بالنسبة إليك الحياة ملحمة انتصار، تبدأ من العمق فما فوق، فلتجعلي همك هناك، إطرحي مرة وإلى الأبد، حيرتك الأنثوية المغيظة بين رأسك وركبتيك، فتكسبي رأسك ورؤوس الآخرين وعظمة أنوثتك». ديزي الأميرنشرت غادة السمان رسائل غسان كنفاني إليها، لم «تتجرأ» في نشر رسائلها إليه او أن الرسائل بقيت في حوزته فالمعروف أنه كتب رواية عن مبغى في شارع الحمراء لم «تتجرأ» لجنة نشر اعماله على اصدارها لانها لا تريد «تشويه» صورة المناضل في حياة غسان كنفاني. في المقابل حين نشرت القاصة العراقية ديزي الأمير الرسائل التي تبادلتها مع خليل حاوي قيل أنها «منتجتها» وحذفت الكثير من مقاطعها التي تدل على خصوصية ما، قالت انها لا تريد ان تسيء الى رجل كان عشيقها. غسان كنفاني اغتيل واحيطت حياته بالقداسة وطغت عليه صورة المناضل لا الانسان في رأي محبيه، الامر نفسه مع خليل حاوي، الذي انتحر ببندقية صيد في خضم الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، اذ سارع غلاة القومية العروبية الى اعتبار انتحاره جاء احتجاجا على الاجتياح الاسرائيلي، لم يأخذوا في الاعتبار أنه انسان ولديه هواجسه، فالمقربون منه قالوا إنه حاول الانتحار اكثر من مرة بسبب العجز في الكتاب والحب وإنه كان يعاني الصرع بحسب ديزي الامير. عاش حاوي حياته عازبا وتتلخص علاقته بالمرأة في «ديزي الأمير» الكاتبة القصصية العراقية. ارتبطت ديزي بعلاقة خطوبة مع الشاعر النزق وكادت هذه العلاقة أن تفضي بالاثنين إلى الزواج الفعلي، لكنه لم يتم لأسباب بدت آنذاك غامضة. على الرغم من أن كثيرين حاولوا معرفة الأسباب والبحث في كنه العلاقة بين القاصة الخجولة والشاعر النزق إلا أن المحاولات فشلت. ولأنه انتحر بعد انفصاله عنها افترض الجميع أنه انتحر لهذا السبب، لكنها وحدها تعرف «السبب الحقيقي» الذي لا زال غامضا.