الجيش اللبناني يرابض في اللاسياسة

نشر في 10-07-2007
آخر تحديث 10-07-2007 | 00:00
 بلال خبيز تابعت الأوساط السياسية والصحافية اللبنانية بيان قائد الجيش اللبناني بانتباه متزايد. دعا قائد الجيش، في البيان، السياسيين والقوى السياسية إلى التوافق في ما بينهم واعتبر أن التنازل من هنا أو هناك لا يعتبر خسارة، بل ربح تاريخي صاف ٍ. هذا البيان جاء كما هو معلوم ومتوقع تتويجاً للدور الحاسم الذي لعبه الجيش اللبناني على مستوى العزيمة والإرادة وحجم التضحيات في المواجهة التي مازال يخوضها ضد عصابة «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد بقيادة الاردني شاكر العبسي. ويفترض أن يشكل هذا البيان فاتحة دور سياسي للجيش وقائده سيكون له أثره الكبير في المقبل من أيام السياسة اللبنانية. قائد الجيش بهذا المعنى وضع جيشه في موقع التوسط بين قوتين أهليتين متنازعتين، وليس ثمة ما يوحي بإمكان رأب الصدع المتعاظم بينهما. والتوسط في هذا المعنى، وحين يكون الانقسام على هذا القدر من الحدة والوضوح وانسداد المخارج أمامه، يصبح أقرب ما يكون إلى العجز والشلل الكاملين. ذلك أن شرط نجاح أي وساطة أن يكون ثمة ما هو مشترك بين المتنازعين يريدونه أن يبقى مشتركاً. وفي الحال اللبنانية، وبالنظر إلى وقائع العامين الماضيين، يمكن لأي مراقب أن يلاحظ تمزق كل ما هو مشترك ودمار كل مساحة عامة يمكن إشغالها من الجميع. فالطعن في شرعية الرئاسات والمؤسسات الدستورية ونتائج الانتخابات النيابية لا يعني أقل من أن ما يجمع اللبنانيين اليوم أقل بكثير من إمكان ملاحظته بالعين المجردة. بل إن لبنان خلال العامين المنصرمين جعل من المعاناة، التي كانت هماً مشتركاً بين اللبنانيين في حروبهم الأهلية، امراً مختلفاً عليه. إذ لا يخفى على أي متابع للشأن اللبناني أن الفرحة تعم بعض مناطق المعارضة ما إن يتم اغتيال سياسي أو نائب من الموالاة. ولم يعد سراً خافياً أن العيش والعمل في مناطق سيطرة المعارضة بات آمناً ومزدهراً بعكس مناطق الموالاة التي تشهد ركوداً اقتصادياً ونزفاً متمادياً. ذلك أن الحرب التي تخاض على لبنان منذ عامين لها ميدان محدد وتطاول مناطق محددة دون غيرها، وهي تقسم اللبنانيين أصلاً وفي الأساس بين طوائف وجماعات موالية للمشروع الأميركي – الإسرائيلي وطوائف وجماعات معارضة لهذا المشروع. مما يجعل الاستهداف السوري المعلن، الذي يعتبر البعض من اللبنانيين حلفاء له والبعض الآخر في خانة المتعاملين مع العدو، استهدافاً لشعوب وطوائف برمتها وليس لفئة سياسية مهيمنة على مقدرات هذه الطائفة أو تلك.

في خضم هذا الانقسام، ثمة الكثير من الاستعدادات العسكرية هدفها الدفاع عن النفس في مواجهة أي هجوم محتمل. فالأحياء والمناطق التي تدين بالولاء لجماعة 14 مارس أخذت تعتمد أكثر فأكثر على ما يسمى بالأمن الذاتي، حيث يقوم شبان من هذه الاحياء بحراسة مداخلها ومنع أي غريب من الدخول من دون إيضاح أسباب دخوله إلى الحي. وهذه خطوة تسبق عادة انتشار حمى التسلح الأهلي من أجل الدفاع عن الحي في مواجهة هجوم الغرباء عليه. وليس خافياً أن مناطق نفوذ المعارضة تعتمد هذا الأسلوب منذ زمن بعيد.

حدة هذا الانقسام الأهلي ليست خافية على الجيش اللبناني وقادته. لكن الجيش نجح كمؤسسة في البقاء متماسكاً وعلى قدر من الوحدة في مواجهة ما يغري بالانقسام أو الانحياز، واستطاع طوال الفترة السابقة أن يبقى، قادة وجنوداً، على مسافة تكاد تكون واحدة من القوتين المتنازعتين. لكن هذه المساحة التي يقيم فيها الجيش اللبناني اليوم هي «مساحة اللاسياسة»، إذا ما اعتبرنا أن القوى المتصارعة تتصارع في السياسة حقاً. ويجدر القول إنها مساحة تقع تحت حد القانون الذي يمكّن الجيش من الصمود أمام محاولات انتهاكه المتكررة. لكن الانتظام العسكري تحت حد القانون يجعله ضعيف الفاعلية في الاقتصاد وهذا ميدان من ميادين الصراع الحاد بين القوتين المنقسمتين، فضلاًً عن استحالة الانحياز إلى حلف خارجي من الأحلاف التي تقيم معها هذه القوى علاقات واضحة ومستترة. وفي هذا المجال لا يبدو الجيش قادراً من موقعه هذا على استدراج الدعم العسكري عتاداً وذخائر وآليات وتدريبات من دون مثل هذا الانحياز، ذلك أن التشكيك بمصدر التسليح يرمي هذا الجيش في مقتل لا يستطيع الدفاع عنه. وحيث إن الانقسام الأهلي يصيب الاقتصاد الوطني بأفدح الأضرار، فإن الجيش، شأنه مثل المؤسسات الرسمية الأخرى، يتأثر تأثراً بالغاً بتردي الاقتصاد وتدهور أحوال المعيشة. وإذا ما نفذت المعارضة تهديداتها في تشكيل حكومة ثانية أو ما يقوم مقامها في الأسابيع القليلة المقبلة، فإن ذلك سيضع هذه المؤسسة الجامعة في موقف حرج، ويدمر ما تبقى من آمال في نفوس اللبنانيين.

كاتب لبناني

back to top