الحرب بين المغامرة والسياسة السياحية!
هل يغامر أردوغان بلعبة خطرة، ويوسع الجيش التركي دائرة الجحيم والفوضى أم يكتشف بسرعة أن مشكلة الأكراد ليست وحدها معزولة عن حزب العمال الكردستاني المتمركز داخل الحدود العراقية حتى إن صار للأكراد نوابٌ في البرلمان، فهناك قضايا شائكة لم تحل ينتظرها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ولن تكون الدبابات والقوة خياراً تاريخياً صائباً؟! لم تتعلم كل الحكومات التي تتالت على إدارة دولة أتاتورك الكمالية القومية، والتي تشبعت منذ نشأتها بالنزعة القومية والنعرة الشوفينية، أن الحرب على الأكراد ورموزهم السياسية، لن تثمر نجاحاً نهائياً، فهناك تجارب سابقة مريرة، لأكثر من ثمانية وعشرين عاماً، لم ينتج عنها إلا ضحايا وقتلى بين الطرفين، ولا ينبغي الفرح والزهو لمجرد أن أوجلان يعيش وراء القضبان، إذ بإمكان كل الأنظمة اعتقال الأفراد وسجنهم ولكنهم عاجزون عن سجن الأفكار والقضايا، فهي مسائل راسخة في جذور الأرض والشعب والذاكرة التاريخية.وقد حاولت الدولة الكمالية الحديثة التنصل من الثقافة العربية والإرث الإسلامي، باتجاه العلمنة والأَوْرَبة، بالتخلص من الإرث العثماني والتقاليد الشرقية القديمة، لإمبراطورية مقهورة ومريضة تم تقاسم ممتلكاتها، من دون أن تفعل شيئاً، ولولا القدر اللعين وأهمية الجغرافيا لكانت تركيا حالها مثل حال البلقان، فقد كانت سهلة التقسيم في فترة الحرب العالمية الأولى، ولكن الدول الكبرى المتصارعة على النفوذ في الشرق الأوسط القديم كانت بحاجة إلى جسد جغرافي قوي يحميها ويحمي مصالحها، فهي من الجانب الغربي الجنوبي كانت معزولة طوبوغرافياً بإسبانيا الأوروبية، فكان مضيق جبل طارق والماء هما الفاصل بين قارتين، إفريقيا وأوروبا، بينما كانت تركيا الحديثة والعلمانية العازل الأكبر والأهم ما بين آسيا المتوحشة والمتخلفة وأوروبا العلمانية الحبلى بالثورات، وبثقافة متنوعة تتجه نحو حداثة القرن العشرين. ومع ذلك كانت تركيا من جوانب معينة، تشكل حاجزا بين جغرافية قديمة للإمبراطورية القيصرية وإمبراطورية جديدة قادمة، اندلعت من رحم الثورة البلشفية، وكانت رياح تلك الثورة حينها، تنتشر بقوة داخل آسيا الوسطى وتشكل خطراً كبيراً على الحدود التركية. وإذا ما سقطت الدولة العثمانية المنهارة في قبضة البلاشفة، فان العبور نحو الشرق العربي وما حوله كإيران يصبح لقمة سائغة، لهذا كان أتاتورك مشروعاً أوروبياً قبل أن يكون مشروعاً تركيّاً، مسموح بتركه وتقويته ككيان قائم بذاته. لهذا صمت الأوروبيون ردحاً من الزمن عن قضايا داخلية كثيرة في الدولة الكمالية، فقد كان مشرط التخطيط للخارطة العالمية يومئذ يسعى إلى تقسيم العالم وفق أجندة أوروبية، فماذا كان على القوى الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى أن تفعل مع دولة وإمبراطورية مهزومة؟ هل تمارس التقسيم حيالها بالقوة نفسها كالذي مارسته على دول أخرى في العالم؟ وكيف تتعامل مع قضايا وقوميات ظلت بمشاريعها السياسية كالمسألة الأرمنية والكردية؟ كان أمام فرنسا وبريطانيا المنتصرتين في المنطقة أن تجلسا وتضعا قلمهما للترسيم وتتفاوضا على الحدود ومناطق النفوذ، من دون أن تنسيا أن هناك «بعبعاً» جديداً في الجوار اسمه الثورة البلشفية، التي بات العالم بولادتها منقسماً إلى نظامين عالميين جديدين، هما الرأسمالية التاريخية والاشتراكية الفتية.في حقبة الحرب العالمية الأولى وما تلاها نشبت صراعات وولدت مطالب وأحلام، كان من ضمنها صراع الأرمن وحقوقهم في الدولة العثمانية، التي وجدت نفسها أمام حقوق مدنية وإثنيه مهمة، كان بالإمكان أن تؤدي إلى اقتطاع أجزاء من جسد الدولة الكمالية أو إعطاء الأرمن حقوقاً واسعة في دولة تدّعي العلمانية والأَوْرَبة! ولكنها في الوقت نفسه، كانت تنزع نحو التفكير القومي الشوفيني والنعرات العرقية، فكان من نتائجها التصفيات الجسدية للأرمن التي بلغت أكثر من مليون إنسان، إذ تجد الولايات المتحدة اليوم نفسها معنية بالدفاع عنها، بعد أن صمتت عقوداً طويلة عن ذلك بسبب أهمية تركيا كخط دفاع أول في مواجهة الشيوعية، بينما كانت رغبة الولايات المتحدة إزاء الأكراد، تميل إلى منحهم حقوقاً ذاتية واسعة في الإطار الجغرافي الذي يتمحورون حوله، في منطقة استراتيجية ومهمة، ولكن الضغط الفرنسي والإنكليزي يومها استطاع إرجاء المطالب الأميركية، بعد أن وجدوا أن فتح باب الحقوق والحكم الذاتي سيضع الأنظمة الحليفة والصديقة في المنطقة في وضع حرج، لا سيما أن إيران وتركيا يومها شكلتا البوابة الحيوية للدبابات السوفييتية، وكان الاعتراف بقيام دولة كردية موالية للولايات المتحدة يومئذ، تشكل حالة استثنائية بين مناطق نفوذ تاريخية تقاسمتها بريطانيا وفرنسا.ومع التبدلات السريعة والدراماتيكية خلال العقدين الأخيرين، أهمها ثلاثة عوامل: سقوط الاتحاد السوفييتي، ونظام صدام حسين، وقيام الاتحاد الأوروبي، كل هذه العوامل تلعب حاليا دوراً ديناميكياً في تغيير لعبة إعادة رسم السياسات الاستراتيجية للجميع، فهل يغامر أردوغان بلعبة خطرة، ويوسع الجيش التركي دائرة الجحيم والفوضى؟ أم يكتشف بسرعة أن مشكلة الأكراد ليست وحدها معزولة عن حزب العمال الكردستاني المتمركز داخل الحدود العراقية، حتى إن صار للأكراد نوابٌ في البرلمان، فهناك قضايا شائكة لم تحل ينتظرها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ولن تكون الدبابات والقوة خياراً تاريخياً صائباً؟! * كاتب بحريني