للمقاومة معادن

نشر في 20-11-2007
آخر تحديث 20-11-2007 | 00:00
 موفق نيربية

إذا لم تتصل المقاومة بالسلطة بعد نصرها فهي محظوظة، لكن المقاومات في بلادنا لم يحالفها الحظ فوصلت إلى الفشل، فالمقاومة الفلسطينية وصلت إلى ذروة «مجدها» حالياً، ثم ترهلت حتى كادت تتفسّخ أطرافها وتيبس مع فرحها بالسلطة، وفي العراق انطلقت المقاومة ولم تنته عملية الاحتلال بعد، وفي لبنان حملت الخطبة الأخيرة لنصر الله تهديداً لأجواء التسوية والاعتدال التي شاعت في الأيام السابقة.

كان من حظّ جان مولان قائد المقاومة الفرنسية ورجاله، ومن حظ صالح العلي، وإبراهيم هنانو في سورية، وعمر المختار في ليبيا وغيرهم، أنهم لم يصلوا أو يتصلوا بالسلطة بعد النصر.

فالمقاومون والثوار جميعاً - تقريباً... للاحتياط وحسب - ساروا على غير هذا، ووصلوا إلى نقطة الفشل أو التحوّل إلى مثل من قاوموهم وثاروا عليهم، أو أسوأ، والتاريخ السابق والحالي بيننا، إذ استطاع غيفارا -الثائر الأسطوري- أن يهرب من هذا المصير قبل اكتماله إلى غابات بوليفيا، ليموت هنالك على كيفه ومزاجه.

في عصرنا هذا لدينا مقاومة في فلسطين وفي العراق وفي لبنان، ولننظر في مآلاتها:

لم تأخذ المقاومة الفلسطينية أبعادها إلا مع هزيمة يونيو 1967 وثورة شباب العالم 1968، وأصبحت مكوّناً أساسياً في روح محاولة النهوض العربية آنذاك، بل كادت تتحوّل إلى أيقونة عميت جزئياً عن أسباب النهضة الأعمق، وساعد على تحوّلها ذاك كون إسرائيل سبباً مباشراً في حالنا بما قامت به وعليه، وغير مباشر بما عززت من عوامل الاستبداد لدينا، وتلك هي المفارقة.

قامت الانتفاضة الأولى، وعاد كل شيء إلى توازنه، في حين حملت الانتفاضة الثانية انقلاب الحال على الحال، وظهر للمقاومة وجه عارٍ... العنف في مقدمة الصورة، فاختلط الأمر بين من يريد أن يتكيّف مع العصر فأوغل، ومن دافع عن نفسه بالانقلاب على عقبيه إلى طهارة الدم مسفوحاً على الوجهين.

ووصلت المقاومة الفلسطينية إلى ذروة «مجدها» حالياً، فالمنظمات الزكية، التي كانت تحاول الحفاظ على طهارة خطها وتاريخها، تقادم عليها العهد، و«فتح» أكبر هذه التنظيمات وأهمها وصلت إلى غاية المطاف قبل الأوان، وترهلت حتى كادت تتفسّخ أطرافها وتيبس، مع فرحها بالسلطة الذي سدّ عليها مخارج التغيير وإعادة البناء.

ووصلت الحال إلى ذروتها الآن، مع «حماس»، منذ أن ظهرت إلى الوجود في أواخر الثمانينيات بعد طول اعتكاف من أهلها عن المقاومة، وخلود إلى العمل السلمي، وأخذت بقتل العدو مهما كانت مهمته وجنسه وعمره، لتصل إلى ما وصلت إليه الآن من عقد العزم على حيازة السلطة بالعنف، واجتازت المسافة ما بين التحرير والتطهير.

الأسبوع الماضي، قامت «حماس» في غزة بقمع احتفال كبير خصّصته «فتح» لذكرى الرئيس الراحل ياسر عرفات، وتتحدث الأنباء عن عدة قتلى وعشرات الجرحى... ولا هوادة.

في العراق انطلقت المقاومة ولم تنته عملية الاحتلال بعد، وكأن هنالك ميلاً مكبوتاً لتطهير الذات قبل تطهير الأرض. وفي الجزائر، التي ربما كانت أهم مثال على المقاومة الناجحة في العصر الحديث، ظهرت جبهة التحرير بعد أكثر من قرن على فشل مقاومة الأمير عبدالقادر، وكانت القوى الحية تقوم في أثنائه بما تستطيعه، فلم تصبح مسلحة، حتى اكتملت شروطها.

وجاءت «القاعدة» بقضها وقضيضها، وانتظم المتضررون من انهيار النظام، مع استعادة شرائح عسكرية وحزبية وشعبية لبعض توازنها، والدخول في ممارسة ما تراه حقها المشروع في مقاومة الاحتلال -وهو كذلك- لولا تداعيات التفكك في النسيج الاجتماعي المختزن في العهد الطويل السابق، وأدّت آليات المقاومة والتسلح الفئوي إلى تعميق الشرخ بالدم والسيارات المفخخة والقتلى المجهولين.

يقول البعض إن الاحتلال هو سبب المصائب كلّها، وينبغي تعديل ذلك، لانقضه، فقد كان الاستبداد بتركيبته المتناهية الطغيان، التي تضمر التمييز والتفرقة، وتركيبة «المقاومة» الملتبسة والمتفارقة في صميم أسباب ما وصل العراق إليه، بعد أن كان مثالاً للبعض في القوة والبناء في زمن الاستبداد ذاته، وأصبح أملاً مثلوماً في انقلاب المسار العربي باتجاه الحداثة والمدنية والديموقراطية والتقدم -والاستقلال الوطني!- بعد ذلك.

ولأتحدّث عن المقاومة في لبنان، خصوصاً في الأسبوع الماضي، مع خطبة السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله و«سيد المقاومة» التي ابتهجنا لها ولنا في الخامس والعشرين من مايو 2000 بإنجازها تحرير الجنوب، وأمسكنا بقلوبنا إشفاقاً عليها من مآل المقاومات بعد انتصارها عموماً، فكيف إذا كانت تركيبتها تعتمد على شريحة واحدة من الشعب، فتجعل «وطنيّتها» بذلك محلاً للقلق، والوطنية المعنية هي التي تُعنى بنسيج المجتمع ووحدته.

وكان الخوف أن ترجع تلك المقاومة -بسلاحها- لتلعب دورها السياسي في البلاد، فلا تكفي عندئذٍ التطمينات ولا الثقة بأن السلاح لن يستعمل، لأنه سيفعل، حتى من دون انطلاق الرصاص، وفي العلوم الاجتماعية والنفسية والحقوقية، تعد تلك ممارسة عنف واستقواء ظالم على الجار القريب، فجاءت الخطبة الأخيرة -بنبرتها وطبولها المرافقة، حتى من دون توقف عند تفاصيلها- محملة بالإنذارات والويلات، ومهددة أجواء التسوية والاعتدال التي شاعت في الأيام السابقة لها.

ولعل هذا المقال يُقابل عند نشره بابتسامة إشفاق، إذا كان اللبنانيون -ونحن معهم- قد تجاوزوا قطوع الاستحقاق الرئاسي، وهذا لايتناقض مع ذكرياتنا عن المقاومة في عصرها الذهبي، وحسراتنا عليها وعلينا في عصرها الخشبي.

* كاتب سوري

back to top