ارفعوا أيديكم عن غزة...أمّا بعد!
الجريمة الإسرائيلية ضد الإنسانية في غزة واضحة، وتحتاج إلى المتانة في الجهة صاحبة الحق. لم يستطع العرب التوصّل إلى بيان رئاسي في مجلس الأمن يسهم في رفع الحصار، مع أن منظمة مراقبة حقوق الإنسان وَسَمّت ما يجري في تقريرها السنوي الصادر الأسبوع الماضي بأنه «عقوبات جماعية».«يداي باردتان، وترتجفان على مفاتيح الكتابة، يتخلّل الهواء الأبنية الحجرية العربية دائماً في الشتاء، وهي باردة جداً الآن لأن الناس في غزة محرومون من تدفئة، وهذا البناء بارد بحيث أرى أنفاسي في غرفة الفندق. لا نور في غزة، أغلقت إسرائيل المعابر، وتوقف مرور الوقود، فرغت الخزانات، وتوقفت محطة الكهرباء في غزة عن العمل، وغرقت في الظلام». هذا وصف من «مايك توبين» لليلة أمضاها في غزة، لينجز تحقيقاً، لمصلحة «فوكس نيوز»، وقد أقام بالطبع في أفخر الفنادق وأكثرها قدرة على توفير الراحة ومستلزماتها، بينما أهل غزة يفتقدون أسباب الحياة وأدواتها، والحصار عقوبة جماعية لشعب، ممنوعة دولياً بموجب المادة الثالثة والثلاثين من اتفاقية جنيف الرابعة.قامت الاتفاقية المذكورة انطلاقاً من سيادة مفهوم الفرد والمسؤولية الفردية، وجاء في تلك المادة أنه «لا يمكن أن يُعاقب إنسان خاضع للحماية بناءً على اتّهام بجرم لم يرتكبه. العقوبات الجماعية وكذلك جميع إجراءات القمع والترهيب ممنوعة». وينطبق تعريف الشخص الخاضع للحماية على أفراد شعب واقع تحت الاحتلال، والمحتل هو المسؤول عن حمايته.تحتج إسرائيل بأنها تتعرّض للجريمة نفسها بوقوع أفراد شعبها تحت وطأة الصواريخ التي تنفجر أيضاً بين أناس مدنيين، والفرق بين «الجماعيّتين» صارخ. تتجلّى العنصرية هنا في جهة ترى في نفسها التفوّق والتميّز بحيث تعادل بين فرد من شعبها وشعب آخر بأكمله.الجريمة الإسرائيلية ضد الإنسانية في غزة واضحة، وتحتاج إلى المتانة في الجهة صاحبة الحق، لم يستطع العرب التوصّل إلى بيان رئاسي وحسب في مجلس الأمن يسهم في رفع الحصار، مع أن منظمة مراقبة حقوق الإنسان «ومركزها واشنطن» في تقريرها السنوي الصادر الأسبوع الماضي وَسَمّت ما يجري بأنه «عقوبات جماعية».أمّا بعد،،،فنحن نعرف ما فعله ويفعله الآخرون بحقوقنا، ولابدّ أن «الفَوَات» له دور في حالنا وطمع الآخرين فينا على رأي الراحل ياسين الحافظ، ويكفينا استغراقاً في خدش جراحنا والبكاء. لم يفهم الكثيرون لماذا قامت «حماس» بانقلابها، وهؤلاء لا يذوبون في الراية والجملة اللاهبة وطريقة الإيمان نفسه، هم أصحاب مصالح، وبشر على الأرض، لهم عائلات تحتاج إلى تنفّس الصعداء. إنّهم يتعلّقون بوطنهم، كافحوا ويمكن أن يكافحوا، ولابأس إن أجهدهم التعب أو غالبهم النعاس قليلاً.للكفاح الفلسطيني مكاسبه وللعمل السياسي أيضاً، لا أظنّ أن هنالك من يرى غير هذا، حتى وهو يُعاند أحدهما في فترة انتعاش الآخر، وللأوضاع التي وصلت إليها الضفة والقطاع بين عام 1987 وعام 1993 وما بعدها بعض فضائل لا تخفى على أحد، لقد أتاحت للشعب الفلسطيني مزيداً من مقوّمات الشعب الحديثة، وخصائص السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة.يتناوب على «حماس» الاستغراق في الحدّين، ولعلّ في ذلك معضلة الإخوان المسلمين أساساً، فهم لم يكونوا بحاجة إلى مواجهة التناقض ما بين العمل السياسي السلمية والانقياد إلى مهمات الجهاد في الفترة الأولى، حتى ابتدأ ذلك ما بين شخص يفكّر مثل السيّد قطب في مصر وآخر مثل مصطفى السباعي في سورية. و«حماس» التزمت العمل الخيري والدعويّ وحدهما طويلاً، ثم ذهبت في خيار الجهاد أيضاً حتى نهايته «المطاعم والحافلات... والصواريخ»، ثمّ شاركت في الانتخابات الفلسطينية التي أتاحها اتّفاق أوسلو، ثمّ انقلبت وأعلنت الحرب المفتوحة في غزة من جديد. ولا يخفى دور «الخارج» في ذلك كلّه، فـ«حماس» مسؤولة عمّا يجري «في ما بيننا».أمّا بعد،،،فربّما يقع على عاتق «فتح» مسؤولية أكبر، بالمقاييس المذكورة نفسها، وهي صاحبة الحجم التاريخي والسياسي الأكبر في تاريخ العمل الفلسطيني، وبفارق كبيرٍ عن غيرها، هي «صاحبة» السلطة الفلسطينية أيضاً في الضفة والقطاع، ولا يُمكن تجاوز مسؤوليتها، عمّا يجري.لم تتجاوز «فتح» نفسها وبدانتها، ولم تعمد إلى التجدّد عن طريق المراجعة السياسية والتنظيمية والشعبية، وأنفت قيادتها أو تهرّبت من ذلك، مع قواعدها التي لم تصل همّتها إلى مستوى إجبار القيادة على تصحيح الوضع واستعادة «فتح» التي نعرفها، وتعي السياسة من الكفاح المسلّح إلى الكفاءة والمرونة، مروراً في الحالتين بالقدرة على استمرار الصلة العضوية الواسعة بالشعب، والأهم أنها لم تستمع إلى الآخرين من أصحاب الطريق الثالث.لا تستطيع إسرائيل أن تحلّ عقدة غزّة على طريقة الإسكندر، وترميها على مصر، ولا تستطيع مصر بدورها تحمّل أعبائها، ومن الجهة الفلسطينية، يمرّ الطريق في شعاب «اتّفاق مكة»، ويحتاج إلى حكمة من «حماس» لم يستطع مؤتمر دمشق إثباتها، وإلى جديّة وفعالية من السلطة الوطنية لم نلمسها بعد.* كاتب سوري