وصيتي للكويت ... إلا الدستور

نشر في 17-09-2007
آخر تحديث 17-09-2007 | 00:00
في ظل هذه الظروف والاوضاع، تصبح المادة 174، أبعد ما تكون عن قلبي، وتصبح مثل الطلاق... أبغض الحلال.
 المستشار شفيق إمام جمعتني والمرحوم الدكتور ابراهيم شحاته النائب الأول لرئيس البنك الدولي الأسبق، زمالة العمل في مجلس الدولة بمصر، وفي المكتب الفني لرئيس الجمهورية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حتى ترْكِه ذلك العمل للحصول على درجة الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة هارفارد عام 1964، إلى أن جمعتنا أرض الكويت العزيزة حين كان يعمل فيها مستشاراً للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية.

وللدكتور الراحل مؤلفات كثيرة في القانون الدولي والتنمية الاقتصادية نُشرت بالعربية، والإنكليزية، ترجم كثير منها إلى اللغات الفرنسية والإسبانية والصينية واليابانية، منها كتاب من ثلاثة أجزاء، في السنوات الأخيرة من حياته تحت عنوان «وصيتي لبلادي».

وقد اختص الجزء الثالث من هذا الكتاب الصادر عام 1996، بالوصية التي أضافها إلى عنوان كتابه «نحو دستور جديد لمصر.. مقترحات للقرن القادم».

طالب فيه بتعديلات كثيرة للأحكام الواردة في دستور مصر الحالي، ولم يكن لمقترحاته نصيب في التعديلات الدستورية الأخيرة في مصر (2007)، إلا ما ذكره من أن الدستور الحالي يفترض دولة اشتراكية؛ في حين أن مصر تتجه إلى اقتصاد السوق، حيث رأى في ذلك تناقضاً، وأثار تساؤلاً أعلن فيه أن محله: ليس ما إذا كانت هذه الأحكام مناسبة أم غير مناسبة، وإنما محله بقاء أحكام الدستور في هذا الإطار؛ في حين أن المجتمع المصري والدولة المصرية قد بدآ السير في طريق آخر هو بيع وحدات القطاع العام، وتمكين القطاع الخاص من الحلول محل القطاع العام، فألغى وصف «الاشتراكي» حيثما ورد في الدستور.

كما كان للفصل السادس (المدعي العام الاشتراكي)، نصيبه في هذه التعديلات، بإلغاء هذا المنصب، بالرغم من أنه كان قد اكتسب خلال السنوات الأخيرة، التي تولى فيها الأخ الفاضل المستشار جابر ريحان ذلك المنصب، ثقة الشعب المصري، بعد أن أعاد إلى فئات كثيرة حقوقها الضائعة، ولم يكن الدكتور الراحل يرى إلغاءه، بل كان يرى أن يحل محل هذا المنصب «ديوان للمظالم» يتلقى شكاوى المواطنين، وخصوصا الشكاوى ضد افتئات السلطات العامة على حقوقهم وإحالتها - بعد تحقيقها وثبوت صحتها - إلى الجهات الإدارية والقضائية المختصة على غرار نظام «الأمبودسمان» الذي يعينه البرلمان السويدي للإشراف نيابة عنه على تطبيق القوانين في الإدارة العامة، للتحقق من أن الحريات والحقوق المدنية مكفولة دستورياً للمواطنين ولا تخل بها الإدارة العامة.

كما استجابت هذه التعديلات لمقترحه الخاص بحذف اختصاص مجلس الشورى بما يراه كفيلاً بالحفاظ على مبادئ ثورتي 23 يوليو سنة 1952 و15 مايو سنة 1971، اعتباراً لحركة 15 مايو التي قام بها الرئيس الراحل أنور السادات للتخلص من خصومة السياسيين، الأمر الذي لا ينطبق عليه وصف الثورة.

بيد أن بقية التعديلات الدستورية، التي كانت ركائز أساسية لمقترحات الدكتور إبراهيم شحاته في الإصلاح الدستوري والسياسي الذي كان ينشده الجميع، جاءت مناقضة تماماً لهذه المقترحات، بما يمكن معه أن تندرج هذه التعديلات في منظومة التقدم إلى الخلف، وهي منظومة سائدة في عالمنا العربي.

وأستميح القارئ عذراً في السرد السابق لوصية الدكتور الراحل لبلاده والاستجابة السلبية لها في أهم ركائزها الأساسية في التعديلات الدستورية الأخيرة، فقد كان هذا السرد مقدمة ضرورية للتعليق على ما كتبه الأخ راشد المطيري أحد كتاب «الجريدة»، في مقاله المنشور بعددها الصادر يوم الاثنين 10/9/2007، وأنا أتابع ما يكتبه بتقدير وإعجاب، وإن اختلفت معه في بعض آرائه، وهو التعليق الذي سوف يقتصر على ما جاء في مقدمة السؤال من أن أقرب مواد الدستور إلى قلبه، «من دون تردد هي المادة (174) من دستور الكويت» التي تجيز تنقيح الدستور، بغض النظر عن شكل هذا التنقيح.

وإن كنت أتفق مع كاتب المقال في أن مبدأ تنقيح الدستور الذي نصت عليه المادة 174، يكشف عن حقيقة أساسية هي أنه لا قدسية للدستور ضد أي تعديل، ولكني لا أصل مع كاتب المقال - مع احترامي رأيه - إلى أن تصبح هذه المادة أقرب مواد الدستور إلى قلبي.

فالمادة 174 همٌّ ثقيلٌ على القلب، بالنسبة إلى دستور الكويت، وإلى التجربة الديموقراطية الرائدة التي خرجت من رحمه، فأظلت المجتمع الكويتي بوافر ظلها بالرغم من بعض السلبيات التي تتخللها، وهي تجربة تنفتح على شعوب المنطقة لتنهل منها وتثير إعجاب العالم.

وأزعم أن مبدأ تنقيح الدستور، هو مبدأ مسلم به في الدساتير المعاصرة كلها، لأن الدستور شأنه شأن أي قانون آخر، هو صنو الجماعة التي يحكمها، لا يتخلف عن ركبها أو يسبقه، ولكنه بما يشتمل عليه من مبادئ أساسية وأصول كلية، من دون النزول إلى التفاصيل التي تعج بها القوانين واللوائح، يتسم بثبات واستقرار لا يُضفيان عليه قدسية، حيث تتكفل القوانين بمواجهة المستجدات، ومواجهة التطور في المجتمع، مثلما عُدّل قانون الدوائر الانتخابية أكثر من مرة، تحقيقاً لإصلاح سياسي منشود في رأي من ناضلوا لإرساء تعديل الدوائر الخمس أخيراً.

وقد جاء دستور الكويت بإرادة شعبية ممثلة في المجلس التأسيسي المنتخب، وبإرادة الأمير الراحل عبدالله السالم، طيّب الله ثراه، الذي كان حاكماً مستنيراً، اجتمعت إرادة سموه وإرادة المجلس المكون من نخبة من أصحاب الرأي المخلصين لبلدهم الذين وضعوا نصب أعينهم مصلحة الكويت، مضحين بمصالحهم الخاصة، في ما وضعوه من نصوص دستورية تحظر على أي وزير أن يزاول عملاً صناعياً أو تجارياً، وقد كان أغلبهم تجاراً، وفي ما نص عليه واضعو الدستور من حظر اسهام الوزراء أو اسهام أعضاء مجلس الأمة في التزامات تعقدها الحكومة، في وقت كانت مجالات استثمارات القطاع الخاص محدودة جداً في الوضع الاقتصادي بالبلاد.

وقد رحل هذا الرعيل الأول، الواحد تلو الآخر، بعد أن أثروا الحياة الديموقراطية بهذا الدستور وحملوا عبء تحديث المجتمع، وعبء المشاركة في الحياة النيابية في مستهل عهدها فأرسوا المبادئ والتقاليد البرلمانية السليمة.

الأمر الذي يجعل تنقيح الدستور، في ظل أوضاع العالم العربي المتردية الآن، حيث تسود قوانين الإرهاب الدستور نفسه (أبو القوانين)، يجعله عودة إلى الوراء في المنظومة المعروفة في عالمنا العربي بالتقدم إلى الخلف.

وفي ظل هذه الظروف والاوضاع، تصبح المادة (174)، أبعد ما تكون عن قلبي، وتصبح مثل الطلاق... أبغض الحلال.

back to top