الناصرية... جسدٌ يفنى وفكرٌ يبقى
عبد الناصر زعيم صنعته الأقدار وقادته خبرته الشخصية وطبيعته المهنية وحبه لشعبه، الذي جعله القدر مسؤولاً عنه 18 عاماً وحب شعبه وتقديره له، إلى المشاركة في كتابة تاريخ الشرق الأوسط. في السادسة والربع من مساء الاثنين 28/9/1970 أعلنت محطات الإذاعة والتلفزيون المصري أن السيد أنور السادات نائب رئيس الجمهورية، آنذاك، سيلقي بياناً مهماً، تحدث نائب الرئيس باكياً ناعياً للشعب المصري والأمة العربية والعالم بأسره جمال عبدالناصر، ومنذ تلك اللحظة إلى الآن مازال الاختلاف قائماً يقل حيناً ويزيد أحياناً، ورغم أنه أصبح في ذمة التاريخ إلا أن الحديث حول عبدالناصر وتجربته وفترة حكمه وأسلوب قيادته وصراعاته وانتصاراته وانتكاساته مستمر ولا ينتهي. بعد استبعاد غلاة المتطرفين من الجانبين، الذين يرى قسم منهم أن عبدالناصر مسؤول عن أخطاء العرب السابقة والحالية كلها، ولا مانع من تحميله الأخطاء المستقبلية أيضا، وأن كل ما حدث ويحدث من انتكاسات وهزائم للعرب من تداعيات سياسته، ويصرون على السب والقذف في حق الرجل ويعمدون إلى خلط الأوراق وتزييف الحقائق لإثبات هذه الفرضية، وقسم آخر يرى عبدالناصر قديساً لا يخطئ ويحرم الاعتراض عليه أو رفض أفعاله ونقدها... ويأتي استبعاد هؤلاء من أجل مناقشة هادئة وموضوعية، من أجل الملايين من شباب الوطن العربي الذين لم يعيشوا تلك الفترة ويتعجبون من حجم الاختلاف والتباين بين الفريقين، نحاول الحديث بهدوء. بداية، عبدالناصر زعيم صنعته الأقدار وقادته خبرته الشخصية وطبيعته المهنية وحبه لشعبه الذي جعله القدر مسؤولاً عنه 18 عاماً وحب شعبه وتقديره له، إلى المشاركة في كتابة تاريخ الشرق الأوسط... والناصرية هي مجموعة الأفكار والمبادئ التي آمن وحلم بها عبدالناصر وسعى إلى تحقيقها بكل جهده والتزم بهذه الأفكار وطالب بتطبيقها من بعده الملايين من أبناء الشعب العربي في كل مكان، وإن كان بعضهم يتساءل في خبث وإنكار عن ماهية الناصرية؟ وهل مازالت موجودة أم انتهت برحيل عبدالناصر؟ بهدوء وصدق وثقة، نُجيب ببساطة ووضوح، أن الناصرية (مجموعة الأفكار والمبادئ) ترتكز على قاعدتين أساسيتين: أولاهما، تتعلق بالقضايا الداخلية للشعوب العربية، والأخرى بالسياسة الخارجية للوطن العربي، وبالنسبة إلى القاعدة الأولى، فركناها الرئيسان هما الانحياز الكامل للشعب والإحساس بآماله وآلامه، والتحالف الوثيق والقوي بين قوى وطبقات الشعب المختلفة من أجل المصلحة العامة لهذا الشعب. وقد يدعي بعضهم أن هذا هو واجب الحاكم ودوره في أي زمان ومكان، ولكن بنظرة واحدة وسريعة للأنظمة العربية من حولنا ندرك صعوبة التزام هذه الأنظمة بذلك، ونجد الفرق شاسعاً بين ما يحدث في الواقع وما يدعوه خلافاً لواقع الحال في مصر الستينيات. وفي ما يتعلق بالقضايا الخارجية، يؤمن الفكر الناصري ببناء شخصية مستقلة للعرب لا تتبع هذه القوة أو تلك، بل تكون مؤثرة قدر الإمكان في ضوء ما تسمح به الظروف بغية إحداث توازن بين القوى العالمية، ونجحت الناصرية في ضم دول ذات ثقل دولي لتبني هذه الفكرة، وهو ما تم التعبير عنه بعدم الانحياز والحياد الإيجابي في باندونغ 1955. أما الركيزة الثانية للسياسة الخارجية، فاعتبار القومية العربية هي الانتماء الحقيقي للمواطن العربي بعيداً عن النظرة القطرية الضيقة والإيمان بأنها العمق الاستراتيجي وخط الدفاع للدول العربية... هذه هي الناصرية باختصار. إن التجربة الناصرية فكر وفعل... والفكر قائم ومستمر لا ينتهي وينتقل من شخص الى آخر ومن جيل إلى جيل بمقوماته وقيمه، سواء قلّ مؤيدو هذا الفكر أو كثروا، أما الفعل (ثورة يوليو) فلابد له من بداية ونهاية، وقد انتهى بوفاة عبدالناصر. وللتوضيح فلا يمكن مثلاً اعتبار السياسة الاقتصادية للرئيس السادات (الانفتاح) أو للرئيس مبارك (البيع) امتدادا للتجربة الناصرية أو لثورة يوليو كما يحاول بعضهم الادعاء استجداءً لشرعية شعبية فقدها كلا النظامين. الفكر صفة للعقل، والعقل لا يَجمُد ولا يتوقف، ولكنه يتطور لمواجهة الظروف الطارئة والأحداث المختلفة ولذلك فاختلاف الفكر الناصري من وقت الى آخر ليس ردة عن المبادئ التي آمن بها عبدالناصر أو تنازلاً عنها، كما يحاول بعضهم الادعاء، أو نهاية للناصرية كما يحلم بعضهم الآخر، بل هو صفة أصيلة في التجربة ودليل حياة ووجود لا عدم وموت. لا يمكن إنهاء المقال من دون الرد على الحديث المتكرر عن أخطاء وتجاوزات عبدالناصر؛ بدءا من القوانين الاشتراكية، ومروراً بحرب اليمن، وانتهاء بهزيمة يونيو، فهو حديث أصبح -عذراً- مثل «الأسطوانة المشروخة»، لا يفهمه أحد ولا يستفيد منه أحد. فلقد اعترف عبدالناصر نفسه بأخطائه ومسؤوليته عنها، وبدأ في معالجتها قبل وفاته، فهل يملك هو أو غيره أكثر من هذا؟ هل كان المطلوب منه أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء؟ ليت بيننا الآن حاكم عربي واحد لديه من الشجاعة والمسؤولية ما يكفي لأن يعلن لشعبه، وهو في قمة السلطة، أخطاءه واستعداده لتحمل مسؤوليتها... فهل يوجد هذا الحاكم؟! لا أظن. وفي النهاية لن أقول كما يقول الجميع «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»، ولكن أقول إن حال الضياع والهوان والانكسار التي تعيشها الأمة العربية منذ سنوات طوال بقدر ما يدفع المواطن الى افتقاد البدر يبعث فيه أيضا روح الأمل بميلاد هلال جديد وأمة عربية متحدة فمتى يظهر الهلال؟ سؤال بقدر الخسارة والأمل.