من ميدان التحرير إلى سواحل خطرة

نشر في 02-03-2008
آخر تحديث 02-03-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

لقد أُهمِل ميدان التحرير باعتباره قلب القلب من مصر الملكية والناصرية طويلاً بل تم تحميله بما لا يطيق وما لا يطاق. ولكن فجأة قد ينقلب الوضع تماماً، إذ نلحظ نشاطاً تجميلياً يسيطر على الميدان، والطريف والعجيب أن هذا النشاط حساس لحاجات الشعب البسيط.

تحدثت في الأسبوع الماضي عن ميدان التحرير بمناسبة حزينة وهي تشييع جنازة الصحافيين الكبيرين رجاء النقاش ومجدي مهنا.

ميدان التحرير؟ نعم هو نفسه، فمهما كثرت تسمية الأماكن في مختلف الدول العربية أو محافظاتها بهذا الاسم يبقى أن هناك أصلاً واحداً ومميزاً جداً وربما كان بالنسبة لجيلي من المصريين والعرب ثاني أكثر الأماكن في عالمهم شهرة بعد الحجاز.

يحتل ميدان التحرير مكانة مركزية في شخصية مصر وفي طبيعتها الجغرافية الثقافية، فإن كانت مصر معروفة بمركزيتها المتطرفة فميدان التحرير هو مركز المركز أو قلب القلب. ويعني ذلك أن كل تطور في حياة البلد ينعكس بطريقة واضحة أو غامضة على الميدان، ولهذا السبب نفسه فهو أدى ولايزال دوراً مهماً أيضاً في التاريخ الشخصي لمعظم القاهريين. واليوم قد يتعرض لمنافسة معينة من ميادين أخرى مستجدة على الساحة ولكنه يستمر باعتباره الفضاء «المقرر» للنزهة واللقاء بين الأصدقاء والأحبة.

أيامنا كانت النزهة بلا خطة واضحة، ولذلك كان السير يبدو فوضوياً وربما تذهب وتعود من الميدان إلى أكثر الشوارع المتفرعة عنه شهرة وهو «طلعت حرب» عدة مرات. اليوم تبدو الحركة ذات هدف أكثر وضوحاً بكثير، شهادتي الشخصية أن حركة الناس صارت مركزة ودقيقة إلى حد ما وأنها بكل تأكيد أسرع مما كانت عليه في شبابي.

ثقافة البزنس تنتشر في الميدان وعبر الميدان إلى الشوارع الجانبية، لاحظوا أن ميدان التحرير كان صمم ليصبح مثل ميدان الشانزليزيه في باريس، وإن لم يكتسب نفس البريق ونفس الرونق أو الفخامة فذلك يعود إلى حظ مصر السيئ وعدم تمكنها من الانطلاق كما كانت تحلم دائما.

تسهل ملاحظة انتشار ثقافة البزنس وشيء من العولمة في الميدان، ولكن هذا الانتشار مازال على نحو ما سطحياً وأبعد ما يكون عن التأثير على شخصية الميدان. وتعكس هذه الحقيقة تعثر سياسة الانفتاح في مصر رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على تطبيقها، وخلال هذه العقود تم تحويل بعض المقاهي الشعبية التي غواها واحتلها المثقفون حتى قرب منتصف السبعينيات إلى سلاسل المطاعم الأميركية الشهيرة التي تبيع ما هو في الواقع طعام سيئ جدا مغلف بطريقة جذابة جدا... للأطفال بالذات. تلحظ ثقافة البزنس أيضا من خلال عدد لابأس به من المحال المشتغلة بالسياحة التي تتعيش على تنظيم رحلات داخلية وخارجية رخيصة، وربما تلحظ بعض المظاهر الأخرى للعولمة، ولكن جميع هذه المظاهر لا تؤثر تأثيراً يذكر على ذاكرة وواقع الميدان لسببين: أن مصر الناصرية لم تذهب أبدا إلى قطيعة مع العالم الخارجي حتى في أصعب الأوقات، ولم يتمكن الرئيس ناصر نفسه من فرض مقاطعة الأفلام الأميركية بعد هزيمة 1967، ولم يعش قرار المقاطعة سوى أسابيع قليلة عادت بعدها إلى دور السينما المنتشرة في وسط المدينة، بل كانت مصر أكثر انفتاحاً على الثقافة الحديثة منها في الوقت الراهن.

أما السبب الأكثر عمقا لاستمرار ميدان التحرير في الاحتفاظ بدوره وبشخصيته المركزية فهو لم يكن يظهر على سطح الميدان على الأقل، وأعني بذلك الصيغة أو القانون العام للتطور الاجتماعي والسياسي في مصر.

هذا القانون العام يمكن أو كان يمكن تلخيصه في جملتين: ترك مصر الناصرية بكل ما فيها تتحلل وبناء نظم وفضاءات خاصة موازية ومتميزة لمصر الساداتية أو المباركية. مصر الناصرية تعني تلك التي تسيطر فيها الدولة من أجل ضمان الانطلاق بالقدرات الذاتية وضمان شيء من العدالة الاجتماعية وإشباع الحاجات الأساسية للفقراء. لم يتم «نسف» أو «تصفية» كل هذا القطاع بل لايزال هو القطاع الرئيسي أو الفضاء الأوسع للمصريين بكل طبقاتهم الشعبية بما فيها الطبقة الوسطى، ولكنه ببساطة ترك من دون موارد ليعاني حالة تساقط وإعياء وتصدع تحت ضغط ثقيل جداً. ومقابل كل قطاع أو فضاء ناصري بهذا المعنى نشأ قطاع معولم تسيطر عليه الشركات العالمية أو بزنس مصري متقدم نسبيا ويعمل بالمستويات القريبة من العالمية على الأقل شكلياً. ويبدو أن الرئيس مبارك ومساعدية كانت لديهم نظرية أو توقع أن يؤدي نشوء قطاع خاص يعمل بمعايير متقدمة في مختلف الخدمات والفضاءات إلى اجتذاب معظم الموارد والاستخدامات. وبالفعل اجتذب هذا القطاع الساداتي أو المباركي الطبقة الوسطى العليا والطبقة العليا الجديدتين بشكل عام. ولكنه بالمقابل جعل مؤسساتهما وفضاءاتهما أقرب إلى المعازل أو الجيتو بعيدا عن المحيط الهادر من الفقراء. وبوجه عام لم يتم الاستثمار في إصلاح أي شيء أو إضافة أي شيء يذكر للمدارس والجامعات والمشافي الحكومية في الوقت الذي اتجه الاستثمار الخاص إلى إنشاء جامعات ومشافٍ جديدة لاستيعاب حاجات الطبقتين العليا والوسطى العليا.

وبينما نتحدث هنا عن قانون عام فثمة استثناءات مهمة، وعلى سبيل المثال فإن مشروع مترو القاهرة كان استثماراً عاماً جباراً وترى هذه الحقيقة بكل وضوح في ميدان التحرير بالذات. وكان الأمل هنا عكسياً تماما للقانون العام: أي أن تحسين النقل العام يقلل الحافز لاستعمال السيارات الخاصة، والواقع أن هذا الأمل تحقق لفترة قصيرة للغاية بنهاية التسعينيات من القرن العشرين. وسريعاً ما عادت جاذبية السيارات الخاصة. وهذا أيضاً ما يستحيل أن يهرب من ملاحظتك المباشرة للميدان، فقد استمرت وتنامت هذه الميول الهادرة لشراء السيارات وهو ما يمكن أن يسبب شللا تاما لكل شوارع وميادين القاهرة.

ومقابل ما يسببه هذا الوضع من فوضى نرى اليوم ظاهرة عجيبة، لقد أهمل ميدان التحرير باعتباره قلب القلب من مصر الملكية والناصرية طويلاً بل تم تحميله بما لا يطيق وما لا يطاق. ولكن فجأة قد ينقلب الوضع تماماً، إذ نلحظ نشاطاً تجميلياً يسيطر على الميدان، والطريف والعجيب أن هذا النشاط حساس لحاجات الشعب البسيط، حيث نرى المقاعد المناسبة للعجائز والعشاق المتنزهين تنتشر في الميدان، وقد ينتهي أيضا في يوم قريب مشروع بناء مكان انتظار للسيارات تحت الأرض وأمام المتحف المصري مباشرة. ويعني ذلك أن تعود للميدان رئة خضراء واسعة نسبيا على السطح تعيد له شيئاً من جماله وتضفي عليه مزيداً من الرونق.

هل نتوقع مستقبلا مبشراً لميدان التحرير الذي يرمز لمصر الليبرالية والناصرية في الوقت الذي تلفظ فيه هذه المعاني أنفاسها الأخيرة؟

أظن أن الإجابة قد تكون بالإيجاب. آه نسيت أن أشير إلى حقيقة أن منظومة الوزارات والمؤسسات الحكومية الكبرى لاتزال تسكن على حافة الميدان تقريباً.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام

back to top