مثقف ع الهوا!

نشر في 25-01-2008
آخر تحديث 25-01-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي

الشخص نفسه الذي تظن أنك تعرفه، ما إن يقف متحدثاً في محفل أو أمام كاميرا التلفزيون حتى تتغير ملامحه وتختلف نبرة صوته، فتظنّ للحظة أنك أمام شخصية خرافية أسطورية، كأنما مسه الجن. فجأة يتحول من شخص كنت تضحك معه قبل لحظة ومن شخص كنت تظن أنه «غلبان»، يتحول إلى مارد. إنسان عادي، فجأة يؤدي دور مثقف على الهواء. على هواء التلفزيون، وعلى هواء الشارع. والسؤال هنا: هل نحن مرضى بالكلام أم أن للشاشات والميكرفونات هذا التأثير فينا؟

في الغرب عندما يلقي رئيس الدولة خطاباً لا يخلو الخطاب من نكتة، كما لا يخلو من سطر يسخر فيه المتحدث من نفسه أحياناً وممن حوله أو من الأحداث أحياناً أخرى، فيعج المكان بالضحك. وفي بلادنا تجد كل متحدث متجهم الوجه، منتفخ الأوداج، مستنفراً ومستفزاً، وكأنه الطائر الخرافي الذي سينقذ الأمة.

أستغرب كثيراً أنه لا توجد لدينا برامج كوميدية مادتها هؤلاء الأشخاص «الجادون جدا»... حقيقة، لا أتمالك نفسي من الضحك عندما أرى هذه التحولات تطرأ على مثقفينا عندما يعتلون المنابر، لا تدرى للحظة من اعتلى من، هل الشخص هو الذي اعتلى المنبر أم أن المنبر هو الذي اعتلى الشخص؟ كيف تحول إنسان، يكون في بعض الأحيان أقرب إلى السذاجة، إلى خطيب مفوه يرصّ الكلام رصاً، كلاماً تبحث فيه عن المعنى فلا تجد إلا رنيناً لعبارات مكررة سمعناها ألف مرة، استعارات وصور وكنايات استهلكت حتى اهترأت، فكل متحدث تحت الأضواء، من الحمّال إلى الزبَّال إلى الموظف الحكومي من أقل مرتبة وظيفية إلى أعلى مرتبة، كلهم قلقون على مستقبل الأمة، وكلهم يحاول حل الصراع العربي-الإسرائيلي، وكلهم مهتمون بتطورات النظام العالمي الجديد، وكلهم يشغلهم الهم العام لا الهم الخاص؟ كلما زادت الجدية الزائفة، وثقل الظل، لا تملك إلا أن تقول للمتحدث المنتفخ، «يا سيدي خف»!

هذا السخف مادة جيدة لبرامج الكوميديا والضحك، لماذا نستمع إلى هؤلاء ولا نضحك، أم أننا نضحك سراً ونسبغ عليهم الإطراء في العلن. هل نأخذهم مادة سخرية وهم لا يعلمون؟ أم أن هناك اتفاقاً عاماً غير مكتوب أن كل من تتاح له فرصة الظهور أمام الكاميرا أو الوقوف وراء الميكرفون، عليه أن يؤدي دور المثقف الجاد الذي لا همّ ولا شغل له إلا القضايا الكبرى؟ ربما لهذا السبب لا نتوقف عند هذه الظاهرة «الجادة» لأنه ليس من المعقول أننا نأخذها على محمل الجد، أو أننا نستفيد شيئاً من كلمات مرصوصة سمعناها ألف مرة!

لو كنت أملك إذاعة أو محطة تلفزيونية لقدمت عشرات البرامج المسلية عن المجاهدين في الأرض وفي الفضاء من حملة المباخر الوهمية وكذابي الزفة الذين يسعون بيننا. ساعات وساعات لا تنتهي من تلفزيون الواقع «إللي يفطّس من الضحك»، ارحمونا من هذا السخف وقدموا كتاباتنا وأحاديثنا المتلفزة على أنها مادة للضحك وليس للجد، لأن في زيادة ادعاء الجدية، منتهى الهزل.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية-IISS

back to top