كلفة «المناخ» يدفعها الأضعف
لم يعد تغير المناخ احتمالاً مستقبلياً، بل أصبح واقعاً يومياً يطرق أبواب المجتمعات حول العالم دون استئذان، فهذه حرائق تلتهم الغابات، وهذه فيضانات تغمر القرى، وتلك مواسم أراضٍ زراعية باتت تعاني الجفاف، وعائلات تفقد منازلها ومصادر رزقها خلال ساعات. في المقابل، ما يزال التمويل المخصص لمواجهة هذه الكوارث يسير بخطى بطيئة، لا يتناسب مع حجم الخطر المتصاعد.
خلال عام 2025 وحده، سجلت خسائر مؤمَّنة من الكوارث الطبيعية بما يتجاوز 145 مليار دولار، فيما قدرت الخسائر الإجمالية بما يزيد على 318 ملياراً، بحسب تقارير شركات تأمين دولية.
ولكن هذه الأرقام لا تُظهر سوى جزءاً بسيطاً من المشهد، فهي لا تعبر عن الألم البشري، ولا عن المعاناة التي تعيشها مجتمعات بأكملها في ظل مناخ مضطرب وموارد شحيحة.
في المؤتمرات الدولية، تعلن التزامات وتمويلات ضخمة لمساعدة الدول النامية على التكيف مع تغير المناخ. وفي مؤتمر المناخ الأخير (COP 29)، تم التعهد بمضاعفة التمويل المناخي ليصل إلى 1.3 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2035. ومع ذلك، يظل الواقع مختلفاً. فالتمويل غالباً ما يتأخر، وتواجه الدول الفقيرة صعوبات تقنية وبيروقراطية في الحصول عليه، بينما تستمر الكوارث في حصد الخسائر.
تظهر كل المؤشرات أن الدول الأقل مساهمة في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري هي الأكثر تضرراً. في العديد من البلدان العربية، تتكرر الظواهر المناخية المتطرفة مثل حرائق الغابات، نضوب المياه، انهيار المواسم الزراعية، وتفاقم الفقر.
وفي بعض المناطق، باتت الهجرة الداخلية بسبب المناخ واقعاً ملموساً، يهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
هذا التفاوت لا يعكس فقط أزمة بيئية، بل أزمة عدالة مناخية أيضاً. فالدول الصناعية الكبرى، التي تسببت تاريخياً في المشكلة، لا تفي حتى الآن بالتزاماتها تجاه من يواجهون العواقب بشكل مباشر.
وأمام هذه الدائرة المفرغة هناك حديث متصاعد عن أدوات تمويل بديلة، مثل «سندات المناخ» وشراكات القطاع الخاص، لكن هذه الحلول ما تزال في مراحلها الأولى، وتعاني من محدودية الوصول إلى المجتمعات الأكثر تهميشاً. وما تزال نُظم التأمين عاجزة عن تغطية الأضرار، ما يجعل المجتمعات وحدها في مواجهة العواصف والجفاف والفيضانات.
الحل لا يكمن فقط في ضخ الأموال، بل في سرعة الاستجابة، وفي ضمان أن تصل الموارد إلى حيث تكون الحاجة حقيقية، دون تعقيدات بيروقراطية أو شروط مجحفة.
فما نواجهه اليوم ليس مجرد تغير في الطقس، بل هو تهديد لأسلوب الحياة. تهديد للغذاء والماء والصحة والاستقرار. وكل تأخير في التصدي لهذه الأزمة يعني مزيداً من الضحايا.
إن العدالة المناخية لا تعني فقط التعويض، بل أن يتحمل العالم مسؤوليته الأخلاقية تجاه الكوكب وسكانه، وأن يدرك أن تأمين المستقبل المشترك يبدأ من إنقاذ الأضعف أولاً.