التعليم من الجمود البنيوي إلى الإصلاح الاستراتيجي (2-2)

نشر في 04-06-2025
آخر تحديث 03-06-2025 | 18:46
 محمد الجارالله في الجزء الأول من هذا المقال، استعرضنا واقع التعليم في الكويت من خلال تشريح دقيق للبنية الراهنة، التي تعاني من نمط تلقيني جامد، ومخرجات لا تواكب حاجات العصر، وممارسات إدارية تكرّس الاستنساخ لا الإبداع. أشرنا إلى مظاهر الانفصال بين التعليم وسوق العمل، والتدخلات الإدارية التي قوّضت الثقة بالمؤسسات التعليمية، وظاهرة الغش والتساهل في التقييم، بما في ذلك الابتعاث العشوائي إلى تخصصات لا تعكس الكفاءة الحقيقية للطلبة.

وانطلاقاً من هذا التشخيص، ننتقل اليوم إلى محاولة جادة لتقديم رؤية إصلاحية تنفيذية قابلة للتطبيق، تستلهم التجارب الخليجية الناجحة، وتراعي خصوصية الكويت، لا سيما في ظل مرحلة إصلاح وطني تُعيد ترتيب أولويات الدولة وفقاً للمصلحة العليا.

من وزارة تشغيلية إلى جهة تنظيمية مستقلة

الركيزة الأساسية لأي إصلاح هي إعادة تعريف وظيفة وزارة التربية. لم يعد من المنطقي أن تتولى الوزارة مهام التخطيط والتنفيذ والمراقبة في آن واحد. إن نموذج الرعاية الصحية المقترح في الكويت، والذي يدعو إلى فصل الجهة المنظمة عن المشغّل، يصلح أن يُستنسخ في التعليم كذلك.
اقرأ أيضا


المقترح هو تحويل وزارة التربية إلى هيئة تنظيمية مركزية تُعنى بوضع السياسات، وإصدار التراخيص، وضمان الجودة، وتأسيس هيئة وطنية مستقلة لتقييم الأداء التربوي، تتولى قياس مخرجات التعليم وفق معايير دقيقة وشفافة، على أن تُفوّض مهام تشغيل المدارس إلى كيانات مستقلة تُدار بعقود أداء سنوية ترتبط بالنتائج.

النموذج التجريبي – البدء بمنطقة العاصمة أو منطقة الأحمدي

لتجنّب مقاومة التغيير، يُقترح إطلاق نموذج تجريبي في منطقة تعليمية واحدة، مثل منطقة العاصمة أو منطقة الأحمدي، يتم فيه تحويل المدارس الحكومية إلى مؤسسات تشغيلية مستقلة، يُموّل فيها الطالب مباشرة من الدولة، وتتنافس المدارس على تقديم أفضل خدمة تعليمية ممكنة ضمن شبكة معتمدة. يتم تطبيق منظومة تقييم شاملة وسنوية تشمل المدارس والمعلمين والمناهج.

وهنا، لا بد من إدخال منظومات الذكاء الاصطناعي لمتابعة الأداء، وتحليل نتائج الطلبة، والتنبؤ بالمخرجات التعليمية، لضمان أن يكون القرار مبنيا على بيانات دقيقة وحيادية.

التمويل الموجه نحو الطالب

بدلاً من دعم المؤسسة التعليمية ككل، يُقترح أن يكون التمويل موجهاً للطالب نفسه. أي أن الدولة تدفع «كلفة تعليم» محددة لكل طالب، وتترك له حرية اختيار المدرسة ضمن شبكة وطنية معتمدة. هذا الأسلوب يحقق عدالة في توزيع الموارد، ويُحفّز التنافس بين المدارس، ويُعزز من جودة التعليم دون تحميل الدولة أعباء إضافية. وهنا أيضاً، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تراقب كفاءة توزيع التمويل وتوجهه وفقاً للأداء الفعلي للمدارس، وليس بناء على التقديرات التقليدية.

تحفيز القطاع الخاص كشريك تنفيذي

ليس المقصود من الإصلاح خصخصة التعليم، بل فتح المجال للقطاع الخاص كشريك في التنفيذ تحت إشراف الدولة، ويمكن تشجيع دخول مدارس خاصة جادة إلى هذا النظام من خلال عقود شراكة تعليمية واضحة المعايير، تلتزم بالمنهج الوطني، وتخضع لمراقبة جودة صارمة من جهة تنظيمية مستقلة. ويمكن الاستفادة من تجربة الإمارات التي أنشأت هيئات تعليمية محلية، وأدخلت مناهج متنوعة ضمن أطر رقابية وطنية، ودمجت التكنولوجيا في صلب العملية التعليمية.



إعادة بناء المعلم... الركيزة الأهم

إن أي إصلاح تعليمي لا يمكن أن ينجح دون إصلاح المعلم. فالمعلم هو الركيزة الأكثر تأثيراً في العملية التعليمية. وفي الكويت، نعاني من وجود عشرات الآلاف من المعلمين الذين جرى إعدادهم في مناخ تقليدي، يعملون وفق نمط أداء روتيني، ومعظمهم فقد الشغف والابتكار.

يجب وضع خطة وطنية متدرجة وهادئة لإعادة تأهيل المعلم الكويتي، تشمل التدريب المستمر، التحفيز المهني، وقياس الأداء التربوي بشكل موضوعي. ويجب أيضاً إدخال الذكاء الاصطناعي في بناء برامج التدريب، بحيث تُفصّل وفق احتياجات كل معلم، وتُراقب نتائجه بشكل تراكمي ودقيق.

الذكاء الاصطناعي والرقمنة... أفق لا بد منه

لا يمكن الحديث عن استراتيجية تعليمية في القرن الحادي والعشرين دون أن يكون الذكاء الاصطناعي في قلبها. بدءاً من تصميم المناهج، إلى تقييم الطلبة، إلى إدارة المدارس، وصولاً إلى تحليل مخرجات التعليم وربطها بسوق العمل.

تجربة الإمارات تعد نموذجاً في هذا المجال، حيث تم إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي والرقمنة في الإدارة التربوية اليومية. وعلى الكويت أن تستثمر في بناء قاعدة بيانات تعليمية موحدة، قائمة على الذكاء الاصطناعي، تتيح اتخاذ قرارات سريعة وفعالة ومبنية على الواقع.

إنشاء مجلس استشاري وطني للتعليم

ولكي لا تبقى الإصلاحات مرهونة بتغير الوزراء أو توجهات الإدارات المتعاقبة، من الضروري إنشاء مجلس استشاري وطني للتعليم، يتبع مباشرة لرئيس مجلس الوزراء، ويضم نخبة من الخبرات التربوية والإدارية والاقتصادية. تكون من مهامه المشاركة في صياغة الاستراتيجية الوطنية للتعليم، ومتابعة تنفيذها، وتقديم التوصيات بعيدة المدى للدولة، بما يضمن استقرار السياسات التعليمية وجعلها مشروع دولة لا مشروع وزارة. إن وجود مثل هذا المجلس يرسّخ مبدأ الاستدامة في التخطيط، ويمنح الإصلاح التعليمي عمقاً مؤسسياً بعيداً عن تقلبات السياسة والقرارات الآنية.

منظومة تقييم لا مجاملة فيها

أي إصلاح يجب أن يُرافقه نظام تقييم وطني موحد، يعتمد على قياس حقيقي للمهارات، لا مجرد الحفظ. تقارير أداء سنوية تُنشر بشفافية، وتربط نتائج المدارس والمعلمين بالتحفيز أو التوجيه، بعيداً عن المجاملات والضغوط. وهنا يمكن أن يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً حاسماً في ضمان حيادية التقييم، وتحديد الفجوات مبكراً.

خاتمة

إصلاح التعليم في الكويت لا يتحقق بإعادة ترتيب الإدارة المركزية، ولا بتطوير المحتوى ولا تدوير قيادات بل بإعادة تصميم الوظيفة التعليمية من أساسها. إن ما طُرح سابقاً من مشروع إصلاح لنظام الرعاية الصحية يصلح لأن يكون مرجعاً عملياً لإصلاح التعليم: وزارة تنظم، وكيانات تنفذ، ومواطن يختار، ودولة تمول وتراقب.

ما لم نتحل بالجرأة على تغيير النموذج القائم ونقتنص فترة الإصلاح فسنبقى نحصد مخرجات باهتة مهما بلغ الإنفاق. التعليم ليس فقط مرفقاً خدمياً، بل مشروع بقاء وطني، وأي إصلاح حقيقي يبدأ من الاعتراف بأن المشكلة هي في النموذج، وليس فقط في التفاصيل، وبتبنّي مشروع دولة تُشرف عليه قيادة عليا، عبر مجلس استشاري وطني للتعليم لا تغشاه التغييرات الوزارية.

*وزير الصحة الأسبق

back to top