من ضيق الموارد إلى رحابة الأفكار... لبنان يبتكر في السياحة البيئية
مع دخول موسم الإجازات الصيفية، يتطلع الكثيرون لقضاء إجازة مميزة، حيث أصبحت السياحة البيئية خياراً شائعاً يجمع بين متعة السفر والحفاظ على الطبيعة، إذ لا يقتصر هذا النوع من السياحة على زيارة الأماكن الجميلة، بل يهدف إلى خوض تجربة واعية تُعبّر عن احترام الإنسان للطبيعة وحرصه على حمايتها، خاصة في ظل ما تواجهه من تحديات مثل التلوث ونضوب الموارد الطبيعية.
تتضمن السياحة البيئية مجموعة من الأنشطة التي تتعامل مع الطبيعة باحترام، ويشمل ذلك: رحلات المشي في الغابات والمحميات الطبيعية، التخييم في الطبيعة واستكشاف الحياة البرية برفقة متخصصين، زيارة المواقع الطبيعية، كالكهوف والأنهار والوديان، تصوير المعالم والتضاريس المائية والبرية المميزة، مما يجعل السائح مستمتعاً بالتنوع البيولوجي ومحافظاً عليه في آن معاً، ومساهماً فاعلاً - بطريقة مباشرة أو غير مباشرة - في جهود التوعية من المخاطر التي تتعرّض لها.
يوفر هذا النوع من السياحة فرصا حقيقية للتعلم والاكتشاف، كما يسهم في دعم الاقتصاد المحلي - ولاسيما في المناطق الريفية - عبر خلق فرص عمل جديدة في مجالات الزراعة العضوية، الحرف التقليدية، والجولات السياحية الموجهة.
وإلى جانب ذلك تزيد السياحة البيئية من فرص التفاهم الثقافي بين الشعوب، وتحفّز المجتمعات المحلية على الحفاظ على ثقافتها وتقاليدها من خلال إشراك السائحين في تجارب ثقافية وتراثية مميزة، مما يعود بالفائدة المباشرة على المجتمع المحلي ويسهم في تحسين جودة الحياة.
مقابل ذلك، تواجه السياحة البيئية تحديات عديدة، منها ضعف البنية التحتية في المناطق النائية، مثل غياب الطرق المعبدة وصعوبة النقل، مما يحد من الوصول إلى المواقع الطبيعية. كذلك يؤدي تزايد أعداد الزوار أحياناً إلى الإضرار بالبيئة إذا غابت الإدارة المسؤولة، حيث يسبب الضغط المتزايد تراجعاً وانتهاكاً جائراً للموارد الطبيعية، إضافة إلى قلة الاهتمام ونقص التمويل، ضعف الوعي البيئي لدى بعض الزوار، صعوبة مراقبة الأنشطة السياحية غير المنضبطة، مما يجعل الحاجة إلى خطط استدامة مدروسة أمراً أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
****
وفي السياق، يُعتبر لبنان نموذجاً ناجحاً للسياحة البيئية في المنطقة، حيث تعد الطبيعة جزءاً لا يتجزأ من هويته الثقافية والسياحية، إذ يتمتع بتنوع طبيعي مذهل من جبال شاهقة وسواحل خلابة، ووديان ساحرة، ومحميات طبيعية رائعة، مثل محمية أرز الشوف وأرز بشري وجبل موسى، وهي في الواقع وجهات تتيح للزوار اكتشاف الطبيعة في جو يشبه الخيال، حيث توفر مسارات للمشي والتخييم وتتيح للسياح التفاعل المباشر مع البيئة. وفي السياق، تتيح مسارات المشي الجبلي الطويلة والممتدة عبر القرى والبلدات اللبنانية للزوار فرصة استكشاف التنوع الطبيعي والثقافي للبنان، مما يوفر تجربة فريدة من نوعها.
الى جانب ذلك، تُعد بعض المناطق اللبنانية نماذج ملهمة في دمج السياحة البيئية مع الحفاظ على التراث الثقافي والطبيعي، فليس من الصعب على زوار القرى اللبنانية أن يصادفوا حدثاً فنياً أو مهرجاناً قروياً يساهم - اضافة الى البعد الترفيهي - في نشر الوعي البيئي من خلال ورش عمل تعزز مفاهيم إعادة التدوير وتسلّط الضوء على العلاقة بين الفن والطبيعة.
إلى ذلك تسهم بعض مشاريع ترميم المباني التقليدية والتراثية في جذب الزوار الذين يسعون للاستمتاع بمكونات الحياة التقليدية اللبنانية.
ورغم التحديات المتنوعة والكثيرة التي قد يواجهها لبنان وقطاع السياحة فيه، يثبت الشعب اللبناني دائماً مرونة وقدرة مميزتين تسمحان له بالتكيف وتطوير حلول إبداعية مبتكرة. وقد شهد قطاع السياحة البيئية في لبنان بالسنوات الأخيرة العديد من المبادرات الرائدة، إذ رغم الإمكانيات المتواضعة، والصعوبات المتزايدة، وبجهود فردية ومحلية، تم العمل على تحسين ما تيسّر من البنى الأساسية، وإنشاء مراكز إرشاد سياحي وتنظيم فعاليات توعوية وتطوير برامج تهدف إلى إطلاع الزوار على أهمية التنوع البيولوجي وطرق الحفاظ على الموارد الطبيعية. كما شهدت المجتمعات المحلية ظهور مشاريع بيئية مبتكرة، كبيوت الضيافة الريفية، وتجارب قطاف الثمار وجمع العسل، والتخييم في أحضان الطبيعة، إلى جانب تنظيم أنشطة رياضية كالتنزه الجبلي وركوب الدراجات في الغابات، فضلا عن إحياء الحرف التقليدية والمنتجات المحلية ضمن إطار سياحي مستدام.