خور عبدالله... اختبار جديد للعلاقات الكويتية - العراقية
تعد قضية خور عبدالله من الملفات السيادية الدقيقة التي تعكس عمق التعقيدات الجغرافية والتاريخية والسياسية بين الكويت والعراق. ورغم توقيع اتفاقيات واضحة ومُلزمة بين البلدين في إطار دولي، عاد الملف إلى الساحة مجدداً بعد قرار البرلمان العراقي في أغسطس 2023 بإلغاء التصديق على اتفاقية عام 2012، الخاصة بتنظيم الملاحة البحرية، في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات والقلق المشروع داخل الكويت.
يقع الخور في أقصى شمال الخليج العربي، ويمثل الممر البحري الفاصل بين جزيرتي بوبيان ووربة الكويتيتين وشبه جزيرة الفاو العراقية. وعلى مدار العقود، شكل الخور شرياناً ملاحياً مهماً للعراق، وطريقاً استراتيجياً للموانئ الكويتية، وفي مقدمتها ميناء مبارك الكبير.
ومنذ ما بعد الغزو العراقي عام 1990، أولت الكويت اهتماماً بالغاً بتثبيت حدودها البرية والبحرية، خصوصاً عبر قرار مجلس الأمن رقم 833 لسنة 1993، الذي اعتمد ترسيم الحدود بين البلدين بشكل نهائي وغير قابل للطعن، وقد تم لاحقاً تعزيز هذا الإطار القانوني باتفاقيات ثنائية، أهمها اتفاقية 2012 التي نظمت الملاحة في الخور.
وجاءت الاتفاقية ثمرة جهود طويلة لبناء الثقة وتنظيم استخدام الممر البحري المشترك بما يحفظ مصالح الطرفين ويمنع النزاعات. وصادق عليها كل من مجلس الوزراء العراقي والكويتي، وتم إيداعها لدى الأمم المتحدة، مما جعلها اتفاقية دولية ملزمة.
وعلى الرغم من ذلك أثيرت في العراق اعتراضات سياسية وشعبوية على الاتفاقية، وبلغت ذروتها بإلغاء التصديق عليها من قبل البرلمان العراقي. وهو ما أثار قلقاً كويتياً مشروعاً، ليس فقط لأنه يمس بروتوكولاً دولياً مبرماً، بل لأنه قد يشكّل سابقة في التعامل مع الاتفاقيات الدولية.
ويُنظر إلى ميناء مبارك الكبير، الجاري إنشاؤه في جزيرة بوبيان، باعتباره حجر الزاوية في الرؤية الكويتية للتحول الاقتصادي، ضمن مبادرة «رؤية الكويت 2035». لكنه في المقابل، يُثير حساسية لدى بعض الأطراف في العراق، التي ترى فيه مشروعاً منافساً لميناء أم قصر.
ورغم أن الميناء يُقام بالكامل داخل الحدود الكويتية المرسّمة دولياً، وتأكيد الكويت مراراً أنه لا يعوق الملاحة العراقية، فإن الشكوك والتأويلات لم تتوقف، ما يؤكد الحاجة إلى خطاب إقليمي هادئ ومدروس، يعيد توجيه النقاش إلى المصالح المشتركة، بدل التنازع السياسي.
واتسم الموقف الكويتي الرسمي تجاه التطورات الأخيرة بضبط النفس والارتكاز إلى القانون الدولي، إذ أكدت وزارة الخارجية أن الاتفاقيات الدولية لا تُلغى بإرادة أحادية، وأن أي إخلال بها يعد انتهاكاً للشرعية الدولية، مستندة بذلك إلى اتفاقية فيينا لعام 1969 بشأن قانون المعاهدات.
لكن هذا لا يعني أن الكويت ستبقى في موقع المتفرّج. فحماية السيادة تتطلب تحركاً فاعلاً، سياسياً وقانونياً، يتواصل مع المجتمع الدولي، ويُذكّر الأطراف كافة بأن احترام الاتفاقيات هو حجر أساس في استقرار العلاقات بين الدول.
في ظل هذه التطورات، تبدو الحاجة ملحّة إلى خطوات مدروسة على عدة مستويات:
1. دبلوماسياً: تكثيف التحركات مع المنظمات الدولية والدول الشريكة لتأكيد موقف الكويت، ومطالبة العراق بتوضيح رسمي بشأن نواياه الحقيقية.
2. قانونياً: التمسك بالإطار الأممي وقرار مجلس الأمن رقم 833، وتوثيق أي محاولة للنيل من هذا الإطار أمام الجهات المختصة.
3. إعلامياً: شرح الموقف الكويتي للرأي العام العربي والدولي، بلغة عقلانية وموثقة، تبرز أن الكويت لم تتجاوز حقها، ولم تُقصّر في احترام التزاماتها.
4. استراتيجياً: المضي قدماً في تنفيذ مشاريعها الوطنية، وفي مقدمتها ميناء مبارك، دون تراجع أو خضوع لحملات التشكيك.
خاتمة:
إن قضية خور عبدالله اليوم ليست فقط اختباراً للاتفاقيات الدولية، بل أيضاً اختبار لنضج العلاقات الخليجية - العراقية، وقدرتها على تجاوز إرث الماضي لمصلحة مستقبل مشترك. الكويت التي اختارت دائماً القانون كوسيلة لحماية سيادتها، تملك اليوم ما يكفي من أدوات الرد، ولكنها تراهن – كما اعتادت – على صوت الحكمة والتفاهم، غير أن هذه الحكمة لا تعني التنازل، ولا يجوز أن تُفسَّر على أنها ضعف، فالسيادة الوطنية تدار بالعقل، نعم، لكنها تُحمى أيضاً بالموقف الثابت والرد الواضح.