معضلة سفينة ثيسيوس

نشر في 18-05-2025
آخر تحديث 17-05-2025 | 19:41
 نادين الفقيه

تروي إحدى الأساطير الإغريقية عن بطولة الملك الأسطوري ثيسيوس الذي أنقذ أطفال أثينا وفرّ بهم من بطش الملك مينوس، ثم أبحر بهم إلى بر الأمان حتى مدينة ديلوس. ولإحياء هذه الذكرى الجميلة وتمجيداً لها، يصعد الأهالي كل عام على متن سفينة ثيسيوس نفسها ويبحرون من أثينا إلى ديلوس على خط سير رحلة الإنقاذ ذاتها كنوع من الاحتفالات.

ومع مرور الزمن وخضوع سفينة ثيسيوس للصيانة الدورية، كان يتم استبدال الأجزاء المهترئة بأجزاء جديدة، مثل استبدال قطع الخشب التالف من هيكل السفينة بقطع خشبية جديدة، واستبدال المسامير الصدئة بمسامير جديدة أيضاً. وبعد سنوات تم استبدال كل قطعة من هذه السفينة التاريخية بقطع جديدة بالكامل.

وهنا يأتي السؤال: مع خضوع سفينة ثيسيوس لأعمال صيانة عديدة على مر السنوات، ومع الاستبدال التدريجي الكامل لكل قطعة أصلية من السفينة بقطعة جديدة، هل ما تزال سفينة ثيسيوس هي السفينة الأثرية نفسها أم أصبحت سفينة أخرى جديدة؟

إن ما يعرف باسم معضلة ثيسيوس هو مفارقة أو معضلة فكرية تتناول ما إذا كان شيء سيبقى محتفظاً بهويته في حال تم استبدال أجزائه الأصلية تباعاً إلى حين استبدال القطع القديمة بقطع جديدة بالكامل.

تطرح هذه التجربة الفكرية مسائل فلسفية واجتماعية حول كيفية تحديد مسألة الهوية الشخصية واستمراريتها، فهل هي تتحدد بالشكل أم بالمضمون أو بالفكرة أو بإجماع الآخرين واتّفاقهم على هويتها؟

أما الفيلسوف البريطاني توماس هوبز فيعطي هذه التجربة الفكرية بُعداً إضافياً، حيث يطرح سؤالاً آخر: ماذا لو أن الوصي على صيانة سفينة ثيسيوس احتفظ جانباً بالقطع المهترئة التي أزالها من السفينة، ثم قام بجمعها وبنى بها سفينة ثانية، فأي من السفينتين هي سفينة ثيسيوس الأصلية؟

وهنا يناقش المفكرون عدداً من وجهات النظر المختلفة والمتعلقة بتعريف الهوية والتغيير: فيقول البعض إن هوية السفينة تظل هي نفسها طالما هي محتفظة بوظيفتها الأساسية، وهي النقل، أي أن روح السفينة أو الفكرة من ورائها هو ما يعطيها الهوية. ولكن ماذا لو استبدلنا القطع الخشبية لهيكل السفينة بقطع من الحديد، هل ما زالت السفينة هي السفينة الأصلية؟

أما الرأي المعارض فيقول إن السفينة أصبحت شيئاً جديداً بسبب استبدال أجزائها الأصلية كافة، ولم تعد تلك سفينة ثيسيوس الأثرية، وبالتالي فالسؤال في هذه الحالة هو: متى توقفت السفينة عن كونها سفينة ثيسيوس الأثرية؟ هل هو عند استبدال القطعة الأولى منها؟ أم عند استبدال القطعة الأخيرة؟

من ناحية أخرى، ماذا لو اعتبرنا أن هوية السفينة قائمة لن تتغيّر وهي خليط من الأجزاء القديمة والجديدة؟ فبالإضافة إلى الآراء المطروحة، يعتقد البعض أنه في حال كان التبديل في الأجزاء يتم على مراحل وليس مرة واحدة، فإن الشيء يظل محتفظاً بهويته وروحه، فعلى سبيل المثال إذا كنت تملك منزلاً، ثم قمت في السنة الأولى بتغيير السور، ثم قمت في السنة اللاحقة بتغيير السقف، وبعد 5 سنوات قمت بتغيير الأرضية، فإن هوية المنزل ما زالت هي نفسها، أمّا إذا قمت بهدم المنزل بأكمله ثم بناء منزل آخر مكانه، فلا يمكن اعتباره أنه البيت الأصلي بعد ذلك، بل يعتبر منزلاً جديداً كلياً.

وهنا يأتي السؤال الذي يتعلق بهويتنا نحن كبشر: هل نحن أرواحنا أو أجسادنا أو ذكرياتنا؟ ما الذي يبقى ثابتاً مع كل التغييرات والتحوّلات التي نمرّ بها مع الزمن؟ وبحسب الفيلسوف جون لوك فإنه من غير الممكن مقارنة البشر مع الأشياء، لأن البشر يملكون روحاً وفكراً وذاكرة، والذاكرة هي التي تربط ماضينا بحاضرنا عبر الزمن، أمّا الجسم فهو في حالة تغيير دائم، ولا يمكن اعتماده كأساس للهوية البشرية. وهنا يأتي السؤال في المقابل: ماذا إذا تعرّضنا لحادث وفقدنا الذاكرة، هل هذا يعني أننا لم نعد الشخص ذاته؟ لا توجد إجابة سهلة عن هذه الأسئلة.

إن معضلة سفينة ثيسيوس هي دعوة للتفكير في هويتنا الفردية والجماعية، والتأمّل في معنى الوجود والتغيير.

back to top