بدون مجاملة: وصايا كاذبة!

نشر في 16-05-2025
آخر تحديث 15-05-2025 | 19:15
 سارة صالح الراشد

مع مطلع الألفية الميلادية الثانية امتلأت رفوف المكتبات بإصدارات «تطوير الذات»، وبسرعة البرق تُرجمت ونُشرت وأُدخلت في عالم صناعة الأفلام السينمائية، ومازالت هذه المؤلفات تُطبَع وتُنقّح وتُتَداول. ومال فريق من الناس إلى هذا المجال وتخصص به وحاور فيه، وأصبح يسافر ويحاضر حوله، حتى وصلنا إلى زمن وسائل التواصل الذي تسابق فيه العاقل والجاهل على حد سواء لتقديم «محتوى» حول «التنمية الذاتية»، بل وإقامة الورش والدورات. وصارت هوسا تجده في كل زاوية، من التعامل مع مشكلة أسرية، إلى تصميم ديكور منزلك!

نقر بأن الإنسان كائن اجتماعي يتأثر ويتفاعل، وهو مزيج بين المنطق والعاطفة، وهو مخلوق عاقل يتعلم ويكتسب طوال حياته، وقد تتغير أفكاره واحتياجاته بين حين وآخر، كما أن لكل إنسان ذاتاً متفردة، وشخصية وطباعاً وميولاً، وتهذيب النفس ضرورة كما الطعام والشراب، يهملها الكثير وينكرها كثير آخر!

لكن تقويم النفس ليس تماماً كما تدعو إليه «فلسفة تطوير الذات»، خاصة بعد عقدين من انتشارها، حيث بدأت بمجموعة من المهارات في تنظيم الوقت، وتحديد الأهداف، إلا أنها شددت على اغتنام الفرص وأغفلت الجانب الإنساني والأخلاقي! فالحياة تبدو كجدول مهام -صارم- لا وجود فيه للظروف، لأنها حجة الكسول! أما الناجح فعليه أن يصمم ويعمل وإلا فاته الوصول!

إن عقلية تطوير الذات تلغي الاعتبارات الاجتماعية، وتختفي فيها مفاهيم جوهرية لدينا، مثل: الرزق والتوفيق والبركة، ولا تلتفت إلى الجانب المعنوي كالحالة النفسية والذهنية لبني آدم. تأتي مباشرة للعمل على الخطة والتنفيذ! ولا تتطرق مطلقا «للتهيؤ» الإنساني المسبق! فوراً عليك أن تبدأ... أن تتبع الإرشادات... أن تنجح!

أما النسخة الحديثة من تطوير الذات فنجد فيها الكثير من الوصايا الغريبة التي تناقض الطبيعة البشرية! في التفاوت والتنوع، وتحول الجنس البشري إلى آلات تنفذ توجيهات جامدة! حتى تكون شخصية لها هيبة «اعتزل ما يؤذيك - كن رسميا». الرسمية لا تتناقض مع أن تكون لطيفاً متواضعاً بشوشاً، والأصوب أن تعتزل الجهل ومجالس اللغو والهزل، أما الأذى فربما ينالك دون قصد، فهل يعقل أن أنبذ شخصاً مقرباً بسبب موقف مزعج أو سوء فهم؟! دون حوار أو مواجهة؟

كما تزرع في الأذهان اعتقاداً قاسياً في تكرار عبارات «لاتنتظر أحدا - اخفض توقعاتك - لا تتعلق». وهي بذلك تلغي العاطفة وتدمر الروابط الإنسانية! التوقعات مرتبطة بالأدوار، والأدوار ملزمة بمجموعة من الحقوق والواجبات، يمارس الأفراد أدوارا متعددة في الأسرة والعمل والصداقة، عليهم واجبات يؤدونها ولهم حقوق ينالونها بصورة متبادلة وليس في ذلك منـّة! إنما أمانة وعطاء جميل وفاعلية. أما التعلق الذي شنت عليه حرب جديدة! فتم اعتباره ضعفاً وخللاً! وهو في الحقيقة فطري في الإنسان والحيوان، كلاهما يرتبط بالمكان الذي يستقر فيه ويألفه ويعتاد المشاركة، ويجد في نفسه ذاك الفراغ عندما تتغير الحال.

من الطبيعي أن يمر الإنسان بإحساس مؤلم، باستياء، يصارع لوعة الفراق، ويأنس بالقرب ويبتهج بالتقدير... فهل أصبح المطلب ألا يشعر المرء؟ ألا يتعرف على الأشخاص وعلى الأشياء فلا يكوّن الروابط ولا يختبر المشاعر ولا يبني العلاقات ولا يتواصل ويتفاعل؟! أهو بشر أم حجر؟؟ هل من الفخر أن تقول إنني لا أتعلق بشيء ولا أكترث لأحد؟ لا يهمني من يبقى ومن يرحل؟! إن وجود هذه التصنيفات والتضادات يعني وجود فرق، والحياة كلها اختلافات، ويستحيل أن يتساوى الليل والنهار! فلا تنكر الحقائق البشرية والسنن الكونية.

سأتعرف، وأتعلق، وأتأرجح!

أليست هذه هي الحياة؟

back to top