غيبوبة رقمية أم تعفّن الدماغ؟
ظهر مصطلح «تعفّن الدماغ» (Brain Rot) مجازاً لوصف تشتت العقل وتآكل الذاكرة بسبب الانغماس في برامج التواصل. فهو مصطلح وصفي «غير طبي» يصف حال تدهور الدماغ وضعفه في التركيز والانتباه نتيجة المتابعة المفرطة لمنصات التواصل الاجتماعي التي تبث المقاطع القصيرة المجزّأة، والمحتوى الرقمي السطحي المبعثر، فتجعل الشخص يعتاد التحفيز السطحي السريع، وينفصل عن محيطه، ولا يستمتع بالحياة الواقعية. فالتعود على المحتوى القصير يحوّل الدماغ إلى عضو كسول لا يتحمّل الصمت فترة طويلة، ويبحث دائماً عن الإلهاء، ويشعر بالفراغ رغم كثرة المحتوى، ولا يستوعب العمق الفكري، ولا يصبر على إكمال المعلومة المطولة والأفكار المتفرّعة.
قد اختير هذا المصطلح ككلمة العام في 2024 من قبل دار نشر جامعة أكسفورد، مما يعكس القلق المتزايد حول تأثيرات الحياة الرقمية على الصحة العقلية، في قلة التركيز والانتباه، والميل للكسل المعرفي وصعوبة التفكير المنطقي.
وقد أظهرت دراسة من جامعة هارفارد في 2020 أن الاستخدام المفرط للمحتوى القصير المتقطع (Micro - content) يقلل من نشاط الشبكات العصبية المسؤولة عن التركيز الطويل والمدى البعيد. وقد بيّنت الدراسة أن الدماغ يتعوّد القفز السريع بين المعلومات، مما يصعب عليه لاحقاً التركيز على الأفكار المعقدة أو القراءة المستمرة والتفكير العميق.
وقد أظهرت دراسة أخرى من «المعهد الوطني للصحة» الأميركي (NIH. 2019) وجود تغييرات في «كيمياء الدماغ» بسبب الإفراط في متابعة وسائل التواصل والتفاعل مع الإشعارات والمحتوى القصير، الذي «ينشّط دوائر المكافأة» في الدماغ مما يؤدي إلى حالة مشابهة للإدمان أو تعاطي «المخدرات الخفيفة»، وهذا ما يسبب «متلازمة نقص التحفيز»، الذي يبعدنا عن الأنشطة الحياتية الواقعية.
عزيزي القارئ، إن «تعفّن الدماغ» ليس له علاقة بعفن الفطريات، بل هو «إنذار ثقافي ونفسي» للحالة التي قد يصل إليها العقل من تدهور في أدائه في الحفظ والإدراك، وفي استيعابه النشيط للمعلومات والمفاهيم، وفي قدرته على الحفظ والتذكر، وفي قدرته على التركيز الدقيق والتأمل العميق، والتفكير النقدي والإبداعي.
أعزائي القرّاء، قد اقتربنا من فترة الامتحانات، وإن كل هواية تبعد أبناءنا عن الدخول في المنصات الرقمية والألعاب الإلكترونية هي هواية مقبولة وإن كانت سخيفة في نظرك، فهي بلا شك أفضل بكثير من الدخول في «خلاط المخ»، الذي يشتت العقل ويشل قدراته، ويغير كيمياء الدماغ الطبيعي إلى كيمياء إدمان الإشعارات والمقاطع المبعثرة المشتّتَ من كل حدبٍ وصوْب! والملل من الواقع، وترك النفس تهيم في «غيبوبة رقمية» في عالم أكثر فوضى من أضغاث الأحلام.