تغييب العلوم الإنسانية من خطة الابتعاث الخارجي: إهمال للعقل وتجاهل لا يليق بعصر الذكاء الاصطناعي

نشر في 12-05-2025
آخر تحديث 11-05-2025 | 20:00
 د. أسيل العوضي

أثارت قائمة التخصصات المدرجة ضمن خطة الابتعاث الخارجي التي أعلنتها وزارة التعليم العالي قلقاً بالغاً، ليس بسبب ما تضمنته، بل بسبب ما أغفلته. فقد خلت القائمة تماماً من تخصصات العلوم الإنسانية والآداب، مما يعكس سوء فهم عميقاً: وهو الاعتقاد بأن التكنولوجيا وحدها هي بوابة التنمية والمستقبل، وتجاهل عمق التغيرات التي يشهدها الإنسان والمجتمع في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي.

إن العلوم الإنسانية — كالفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والتاريخ، والأدب والفنون — هي ميادين تبحث في جوهر الإنسان — كيف يفكر، ويتفاعل، ويعبر، ويحكم، ويتطور. وهي لا تمنح فقط عمقاً ثقافياً، بل أدوات تحليلية ضرورية لفهم التغيير. وفي وقتٍ تُعيد فيه التكنولوجيا رسم معالم حياتنا الفردية والجماعية، تصبح هذه العلوم خط الدفاع الأول في ترشيد الاستخدام، وتوجيه الابتكار نحو ما يعزز القيم الإنسانية لا ما يفرغها من معناها.

إن الاقتصار على التخصصات العلمية والتكنولوجية في الابتعاث قد يُنتج أدوات متقدمة، لكنه لن يُنتج مجتمعات متوازنة. تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم تتسبب في تحولات عميقة على مستوى الهوية، والوظائف، والعلاقات، وحتى الإدراك. لذلك يصبح علم النفس ضرورياً لفهم التبعات النفسية للاستخدام المكثف للتكنولوجيا، كالإدمان الرقمي أو اضطرابات القلق الاجتماعي. وعلم الأعصاب يقدم رؤى مهمة حول كيفية تفاعل الدماغ البشري مع بيئات افتراضية تزداد تعقيداً. أما الفلسفة، فهي الحارس الذي يوقظ الضمير الأخلاقي، ويطرح أسئلة ضرورية عن حدود الاستخدام، العدالة، والمساءلة في عصر الآلة.

نحن لا نواجه فقط آلات جديدة، بل عالماً جديداً بالكامل. ولهذا تختلف ثورة الذكاء الاصطناعي عن الثورة الصناعية. فالمصانع غيّرت طريقة عملنا، بينما الذكاء الاصطناعي يغيّر طريقة تفكيرنا، ومشاعرنا، وقراراتنا، وحتى فهمنا لذواتنا. لم يعد مجرد أداة بجانبنا، بل نظام يعيش في داخلنا. ولهذا، لن تكفينا المهارات التقنية وحدها. نحن بحاجة إلى البصيرة الإنسانية — وهي بصيرة لا تمنحها سوى العلوم الإنسانية.

لذا، لن نستطيع التعامل مع ثورة الذكاء الإصطناعي بحكمة ما لم يكن لدينا، إلى جانب المهندسين والمبرمجين، مفكرون وفلاسفة ومؤرخون وعلماء نفس وفنانون. من دونهم، سنبني مجتمعاً فعالاً — لكنه قد يكون غير حكيم، غير عادل، وربما غير مستقر. إن المجتمعات التي تنهض بحق، هي تلك التي تُنمّي قدرات أبنائها على التحليل والربط والتفكير الأخلاقي. والعلوم الإنسانية هي البيئة التي تُصقل فيها هذه القدرات، وتُبنى فيها العقول القادرة على قيادة المستقبل، لا فقط التفاعل معه.

قد يرى البعض أن جامعة الكويت توفر تلك التخصصات، فلا حاجة لإدراجها ضمن خطة الابتعاث. لكن السؤال الحقيقي هو: ما مدى حداثة مناهجها؟ وما مدى ارتباطها بتحديات عصر الذكاء الاصطناعي؟ فالمعاصرة اليوم تعني التعليم البيني — حيث تلتقي الفلسفة مع علم البيانات، وعلم النفس مع سياسات التقنية، والتاريخ مع دراسات المستقبل— وإلا كانت غير ذات جدوى.

وعليه، فإن تغييب تلك التخصصات من خطة الابتعاث يعد مؤشراً على قصور في الرؤية الاستراتيجية. وإذا أردنا فعلاً أن نُعدّ أجيالاً قادرة على التعامل مع تحديات العصر الرقمي، فعلينا أن نُعيد الاعتبار للعلوم الإنسانية، لا بوصفها ماضياً ثقافياً، بل بوصفها ضرورة مستقبلية.

*استشاري في التعليم والسياسات العامة

back to top