الثروة البشرية
الانطلاقة الأولى نحو التمدن الحضاري في الطريقة السائدة بدول العالم تسير نحو الأسلوب الذي يفرض فيما ينتجه العلماء والباحثون والأكاديميون، وهي على اعتبار أنها بحوث ومسائل علمية نهضت واستفاقت عن طريق مجهودات قاموا بها وأعلنوا عن نتائجها ونشرها مع توضيح بيان تلك الآليات والخطط اللازمة في تنفيذ وتشغيل هذه النتائج، والتوصيات التي خرجت عن طريق دراسات تتناول موضوعات معينة هم بحاجة إليها، فتأتي على شكل كتب ومذكرات أو عن طريق مقالات علمية أو ندوات ومؤتمرات وبعضهم من يختصر الطريق بإعلان هذه النتائج العلمية بجملة واحدة عن طريق سياسة التصريحات العلمية، فكما أن هناك تصريحا سياسيا واقتصاديا هناك أيضا تصريح علمي قد يأتي عن طريق وسائل الإعلام، وكذلك عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تقودنا هذه النتائج العلمية نحو اتجاهين: الأول هو أن يقدم الباحث تطورات نحو إنجازات علمية لم يسبقه لها أحد في بابه، وذلك بأن يأتي بمسائل علمية جديدة تساعد على توسعة القاعدة المعلوماتية لهذه العلوم المنشودة. أما الاتجاه الثاني فهو أن يعالج اولئك الباحثون مشكلة عالقة من خلال أحد الموضوعات الجزئية التي أحدثت خللا جراء عمليات التنفيذ، وذلك نحو جوانب التطور العلمي من خلال أحد الجوانب الفنية في مجال واختصاص علمي معين. ومن خلال هذا المسار أيضاً تجد هذا الباحث أو الدارس يتجه نحو الدراسات التوقعية أو يناقش فرضية معينة قد يؤدي حدوثها إلى وقوع كارثة أو مشكلة محتملة الحدوث، فهو يضع رؤية أو كما يطلق عليها في بعض المجالات «خارطة طريق»، وذلك للخروج من هذا المأزق الذي ربما لم يحدث أو أنه قد حدث من خلال بوادر صغيرة يخشى استفحالها، لذلك تجده يقوم على فرضيات علمية متعلقة بمجاله العلمي الذي يختص به.
نطمح في عالمنا العربي إلى أن نقدم هذا الدور بالرغم من وجود الكفاءات الكافية من الباحثين والعلماء والأكاديميين العرب، ولكن مازال الباحث الأوروبي يفرض نفسه في بلداننا، ربما هي أزمة ثقة بين «المجتمع» وعموم العلماء والباحثين، انعكست بالركود نحو علاقة تعزيز الثقة بين الباحث العربي وحكومته، في عالمنا العربي لدينا كوكبة من الأكاديميين والعلماء هم أهل للكفاءة والثقة، ينقصنا فقط بناء جسر للتواصل بينهم وبين حكوماتهم دون التدخل السياسي والمحاصصة في هذه العملية. الباحثون والأكاديميون هم ثروة بشرية يجب أن تستغل وأن يستفاد منها، ما العجب في ذلك؟ العجب والغرابة في أنه كيف لا يتم استغلال طاقات الشباب العربي من الباحثين والأكاديميين والعلماء والمفكرين استغلالاً أمثل؟ كيف تترك هذه «الثروة البشرية» من غير استثمار؟ ومن المستفيد...؟ لماذا يجد الباحث العربي بيئة حاضنة في الغرب الأوروبي والأميركي بينما لا يجدها في بلاده، لابد من وجود رؤية مستقبلية حول هذه الأزمة، والذي في اعتقادي تتمحور نحو هذا المسار على النحو الآتي:
1- إنشاء مراكز البحوث الكافية للم شمل أولئك الباحثين والاستفادة منهم ومن خبراتهم.
2- تقديم دراسات مبدئية تبين الفارق بين مستوانا الحالي وبين آخر مستجدات جميع العلوم.
3- وضع رؤية واضحة في كل مجال علمي نحو الهدف الأسمى والمستوى المنشود الذي نطمح إلى أن نكون فيه.
فعلى سبيل المثال بالنسبة لمجال «التراث المعماري» فإن حلم كل باحث يعمل في هذا المجال هو أن يكتشف الأبنية التاريخية ويجعل منها مادة حية يمكن الاستفادة منها على نحو صعيد الكيان السياسي، وذلك في إثبات الريادة والاتصال الحضاري، ومتى ما فقد هذا الاتصال رغبة في تجديد الفكر بين الكيان السياسي وهذه الأبنية التراثية، تحولت هذه الأبنية التراثية إلى قطاع الثقافة والفنون والسياحة لوضع دراسات مختلفة تبين دراسة مدى ذلك العمق في تلك التجربة الإنسانية مع بيان توضيح تلك العلاقة المتصلة بين هذه المباني التراثية وبين تلك الشعوب التي ورثتها. فينتج من خلال وجود هذه الأبنية القديمة تأصيل الهوية الدينية والوطنية والاجتماعية والإنسانية لتحافظ على موروثات الأمة وكياناتها فتزدان أمتنا جمالاً، ذلك الجمال الذي يحافظ على منظرنا العام بين الأمم.
* باحث ومؤرخ ومتخصص في الآثار المعمارية