من مشروع سابق إلى سياسة وطنية...دعوة لمجلس التخطيط لإحياء برنامج تغيير النمط الاستهلاكي (2-2)

نشر في 05-05-2025
آخر تحديث 04-05-2025 | 19:37
 محمد الجارالله

في الجزء الأول من هذا المقال، استعرضنا ملامح ظاهرة الاستهلاك المُفرط في المجتمع الكويتي، وأشرنا إلى الجهود التي بُذلت عام 2004 حين تم تكليفنا من قِبل مجلس الوزراء إعداد مشروع وطني لتغيير النمط الاستهلاكي للفرد والأسرة الكويتية.

اليوم، وبعد مرور عقدين من الزمن، فإن التحدي لا يزال قائماً، بل ازداد عُمقاً وتعقيداً، وباتت معالجته ضرورة وطنية لا تقبل التأجيل.

لكن الفارق الجوهري أن المرحلة التي نعيشها اليوم هي مرحلة إصلاح حقيقي، وهي لحظة نادرة تحمل نَفَساً استراتيجياً في إعادة بناء الدولة، وإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الفرد والمجتمع، وبين الاستهلاك والإنتاج. وهذه اللحظة هي فرصتنا الذهبية لإعادة طرح المشروع، وتفعيله بجدية، ضمن رؤية تنموية تقودها مؤسسات التخطيط، لا مجرَّد مبادرات ظرفية.

لماذا نحتاج إلى هذا المشروع الآن؟

لأن التحديات التي نواجهها تتجاوز الجانب المالي، وتمس الأمن الاجتماعي ذاته، فالأسرة التي تستنزف دخلها شهرياً دون تخطيط، والأسواق التي تروِّج للاستهلاك بلا قيود، والمجتمع الذي يقيس النجاح بالمظاهر لا بالمنجزات، كلها عوامل تفرز أجيالاً غير قادرة على مواجهة الأزمات، ولا على بناء مستقبل مستقر.

إن تكرار الأزمات الاقتصادية العالمية والإقليمية يعلِّمنا درساً واحداً: الاستدامة لا تتحقق بالموارد، بل بالسلوك، وكل إصلاح مالي أو إداري لا يُرافقه إصلاح سلوكي ثقافي يبقى عُرضة للانهيار أو الجمود.

ملامح البرنامج الوطني المقترح

إن ما نطرحه هنا ليس مشروعاً نظرياً، بل خطة وطنية قابلة للتنفيذ، تتكامل فيها الجهود الرسمية والأهلية، وتُدار من قِبل مجلس التخطيط، باعتباره الجهة المنوطة بصياغة الرؤى الاستراتيجية للدولة.

أولاً: تشريعات منظمة للأسواق المالية والاستهلاكية

• قبل عدة سنوات صدر قانون مركزي يضبط سوق القروض الاستهلاكية، ويضع سقوفاً عادلة لا تُنهك دخل الفرد، وقد رأينا أثره الإيجابي.

• منع الحملات التسويقية التي تُغري المواطن بالقروض السهلة لشراء الكماليات، خصوصاً الفئات الشابة.

• وضع ميثاق أخلاقي للإعلام الاقتصادي يمنع نشر ثقافة التبذير أو المظاهر الخادعة.

ثانياً: إدماج الثقافة المالية في المنظومة التعليمية

• إدراج مفاهيم التخطيط المالي، والادخار، والإنفاق الواعي ضمن المناهج الدراسية من المرحلة المتوسطة.

• تدريب المعلمين على تقديم محتوى اقتصادي مبسَّط للطلبة، وربط المفاهيم النظرية بسلوك يومي تطبيقي.

• إنشاء مسابقات وطنية للطلبة عن «الميزانية الأسرية» و«مشروعات الادخار الصغير»، لتحفيزهم على الممارسة العملية.

ثالثاً: إنشاء أدوات ادخار وطنية مبتكرة

• إطلاق «صندوق الأسرة الكويتية»، وهو صندوق استثماري جماعي يُتيح للأسر استثمار جزء من دخلها، ويُدار بشفافية، ويحقق عوائد حقيقية.

• إصدار صكوك ادخار وطنية مضمونة من الدولة، تُخصص لمشاريع البنية التحتية أو الطاقة أو الغذاء، ويشارك فيها المواطن شريكاً لا مستهلكاً.

• ربط برامج الدعم الحكومي جزئياً بمؤشرات السلوك المالي للأسرة، بحيث يُكافأ الانضباط المالي بتسهيلات ومزايا تحفيزية.

رابعاً: دور فاعل للمجتمع المدني والإعلام

• دعم الجمعيات الأهلية المختصة بالتوعية المالية، ومنحها صلاحيات لتنظيم حملات في المدارس والمناطق.

• إطلاق حملة إعلامية وطنية تحت شعار «ادخر 10%»، تربط بين الادخار والمواطنة، وبين الترشيد والاستقرار.

• تخصيص مساحة بوسائل الإعلام الرسمية لبرامج أسبوعية تتناول الإدارة المالية للأسرة، وتعرض قصص نجاح من الواقع الكويتي.

خامساً: تأسيس مركز وطني لترشيد الاستهلاك

• يتبع مجلس التخطيط، ويضم خبراء في الاقتصاد والاجتماع والإعلام، أو تطوير وحدة القياس بالتخطيط، ورفع مستواها، وإضافة المشروع لها.

• يتولى وضع مؤشرات سنوية عن سلوك الاستهلاك الأسري، ونسبة الادخار، ومعدَّل القروض، ويصدر تقارير دورية لمجلس الوزراء والمجلس الأعلى للتخطيط.

• يكون حلقة الوصل بين الدولة والمجتمع في تصميم السياسات وتحليل الأثر وقياس التقدُّم.

مكاسب المشروع... للفرد والدولة معاً

إذا ما تم تفعيل هذا البرنامج الوطني، فإننا سنحقق مكاسب عظيمة على المستويين الفردي والوطني:

• استقرار مالي للأسرة، وتخفيف الضغوط النفسية المرتبطة بالديون.

• تحفيز للادخار الجماعي، مما يخلق قاعدة رأسمالية وطنية تُغني عن الاستدانة الخارجية.

• تحوّل في ثقافة المجتمع من «الاستهلاك بوصفه مكانة» إلى «الإنتاج بوصفه قيمة».

• فرص عمل جديدة في قطاعات التمويل الصغير، والاستثمار المحلي، والخدمات المصاحبة.

• رفع كفاءة الأداء الاقتصادي للدولة، وتقليل الهدر في الموارد والإنفاق.

دعوتنا إلى مجلس التخطيط

نوجِّه هذه الرسالة، بكل وضوح ومسؤولية، إلى مجلس التخطيط، باعتباره صاحب الدور المحوري في قيادة التحوُّل الوطني، ووضع السياسات الكبرى للدولة.

إن «تغيير النمط الاستهلاكي» ليس مشروعاً فرعياً، بل هو أحد أعمدة الأمن الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الكويتي.

وما أحوجنا اليوم إلى أن نترجم الرؤية الإصلاحية التي نعيشها إلى مشاريع فعلية يشعر بها المواطن، وتنعكس في سلوكه، وتُترجم إلى أرقام في مؤشرات الدولة.

ليس المطلوب البدء من الصفر. لدينا مشروع مكتمل منذ 2004، وتجربة ميدانية سابقة، ورؤية واضحة، وما نحتاجه فقط هو الإرادة والتفعيل، ضمن إطار مؤسسي يتولاه مجلس التخطيط، وبتعاون من الجهات ذات الصلة.

وأخيراً...

إن بناء دولة قوية يبدأ من أسرة مستقرة، والأسرة لا تستقر إلا حين تحسن إدارة دخلها، وتُوازن بين متطلباتها، وتُحسن الاختيار.

لقد آن الأوان لأن يتحوَّل المواطن الكويتي من مستهلك دائم إلى مشارك حقيقي في الإنتاج والبناء والاستثمار.

وإذا ما نجحنا في ذلك، فإننا نكون قد وضعنا حجر الأساس لاقتصاد متين، ومجتمع ناضج، ودولة مستدامة.

فهل نغتنم لحظة الإصلاح؟

نحن نؤمن بأن الوقت قد حان.

* وزير الصحة الأسبق

back to top