ظاهرة... «مضيّع مفتاح حلْقه!»
قال الفيلسوف اليوناني سقراط: «تكلم حتى أراك»، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: «الرجال صناديق مغلقة، مفاتيحها الكلام».
كلا القولين يؤكد حقيقة واحدة، أن الكلمة مرآة صاحبها، وباب يُفضي إلى معرفة خفايا عقله وقلبه.
ويقابل هذين القولين الحكيمين مثل شعبي: «مضيّع مفتاح حلْقه».
وهذا المثل الشعبي العميق يلخِّص حال أولئك الذين يُكثرون الكلام بلا طائل، ويتخبَّطون في حديثهم، فلا يزيدهم طول اللسان إلا افتضاحاً وعجزاً عن إيصال فكرة نافعة أو موقف رصين.
فكم من رجلٍ يريد أن يستر نقصه أو يفرض حضوره بالحديث المستمر! يفتح المواضيع اعتباطاً لجذب الانتباه، فلا يُحسن انتقاء الكلمات، ولا يقدِّر وقعها، فيسيء إلى نفسه وإلى السامعين. وكثيراً ما تسمع مَنْ حوله يقولون ساخرين: «ليته سكت!».
ومثله في الأمثال المصرية الشعبية مَنْ يُقال عنه: «فنجري بُؤ»، أي كثير الكلام قليل الفعل، أو كما يُقال: «تحدَّث كثيراً، ولم يقل شيئاً».
لقد ابتُليت مجتمعاتنا العربية، سياسياً، وثقافياً، واجتماعياً، واقتصادياً، بكثير من هؤلاء الذين أضاعوا مفاتيح «حلوقهم»، فصار كلامهم عبئاً على السامعين، بدلاً من أن يكون مفيداً لهم. إن مفتاح الحلق ــ ذلك الميزان الخفي الذي يضبط اللسان ــ بات نادر الوجود، كأنه قُذف في غياهب الجبّ وصعب الوصول إليه!
وهنا نقطة مهمة:
لو كان اللسان ميزاناً للكلمة، لما سمعنا سقط الكلام، ولأصبح الحديث أداة بناء، لا مطيَّة للهوى والسطحية.