آن الأوان لتغيير النمط الاستهلاكي للأسرة الكويتية (1/ 2)

نشر في 28-04-2025
آخر تحديث 27-04-2025 | 19:45
 محمد الجارالله

وسط عالم متقلب اقتصادياً واجتماعياً، بات من الضروري أن نُعيد النظر في سلوكياتنا المالية، لا سيما في ظل مرحلة جديدة تعيشها الكويت، تتسم بالرغبة الصادقة في الإصلاح الإداري والمجتمعي، وإعادة بناء قواعد الدولة الحديثة على أسس الرشد والكفاءة والاستدامة.

من أبرز التحديات التي تعوق مسار التنمية وتستنزف قُدرات الأسرة والدولة، ما نراه اليوم من تفشي النمط الاستهلاكي غير الرشيد، الذي أصبح ظاهرة ضاغطة في حياة الأفراد، ومصدر قلق متزايد للاقتصاد والمجتمع على حد سواء.

في بلد مثل الكويت، حيث الوفرة المالية والدعم الحكومي، كان من المفترض أن تعيش الأسرة في استقرار مالي، لكن الواقع يكشف عن عكس ذلك تماماً: قروض متراكمة، استهلاك مُفرط، غياب للادخار، ودوامة من الالتزامات التي لا تنتهي.

هذه الظاهرة، بما تحمله من آثار اجتماعية واقتصادية خطيرة، لم تكن غائبة عن صانع القرار. ففي عام 2004، عندما كُنت وزيراً للصحة، بادرتُ بطرح فكرة إعداد مشروع لترشيد النمط الاستهلاكي للأسرة الكويتية، وإثر هذه المبادرة، كلَّفني مجلس الوزراء رسمياً قيادة فريق وطني لإعداد برنامج متكامل لمعالجة هذا الملف، رغم أني لم أكن وزيراً للاقتصاد، وذلك إيماناً من الحكومة بأهمية الطرح، وحاجة المجتمع إلى تدخل منظم وشامل.

وقد ضم الفريق ممثلين عن عدة وزارات: المالية، والتخطيط، والتجارة، والإعلام، إلى جانب البنك المركزي، وديوان المحاسبة، وغرفة التجارة، وعدد من الشخصيات المتخصصة في الاقتصاد والمجتمع والإعلام. وقد عقدنا اجتماعات مبدئية، وتوصلنا إلى نتائج مهمة، بل صادمة في بعض تفاصيلها.

مؤشرات مقلقة ونتائج واضحة

لقد أظهرت الدراسات التي أعدَّها الفريق حينها أن النمط الاستهلاكي في الكويت يتجه نحو منحى خطير، ومن أبرز مظاهره:

• تضخم القروض الاستهلاكية بشكل يفوق قدرة كثير من المواطنين على السداد.

• ضعف ثقافة الادخار، وانعدام وجود خطة مالية لدى نسبة كبيرة من الأسر.

• انتشار مظاهر التبذير في المناسبات، والإنفاق على الكماليات بدرجة تفوق الضروريات.

• اعتماد فئات واسعة على القروض لتسيير نفقات أساسية، وهو ما يحوِّل الأسرة إلى رهينة للبنوك والشركات التمويلية.

• ارتفاع حالات الشيكات المرتجعة والنزاعات المالية، ما يؤشر إلى خلل بنيوي في الثقافة الاقتصادية السائدة.

خلصنا آنذاك إلى نتيجة واضحة: المشكلة ليست مالية فقط، بل ثقافية وسلوكية، وتغييرها لا يتم بقرار فوقي، بل بحاجة إلى مشروع وطني متعدِّد المحاور، يبدأ من المدرسة، ويصل إلى الإعلام، ويمر بالتشريعات، والبنك المركزي، والقطاع الخاص، وحتى الأسرة نفسها.

من تجربة بريطانيا... إلى واقع الكويت

عندما كُنت أدرس في بريطانيا، وقفت على تجربة مختلفة تماماً. الأسر البريطانية، رغم دخلها المحدود مقارنة بالكويتيين، كانت تلتزم بالادخار شهرياً، وتقوم باستثمار هذا الادخار عبر صناديق استثمارية في الشركات والأسواق المالية، ضمن نظام منظم يربط الفرد بالاقتصاد الوطني. كان ذلك سلوكاً يومياً معتاداً، يبدأ من المدرسة، ويُغرس في الأبناء مبكراً، ويُعد من مقومات المواطنة الصالحة.

لقد تعلَّمت من تلك التجربة أن الادخار ليس حرماناً، بل هو تحرُّر من القلق. ليس ترفاً، لكنه وعي. وليس عبئاً، بل أداة للتمكين.

فماذا لو أن كل أسرة كويتية خصصت فقط 10 في المئة من دخلها للادخار أو للاستثمار في مشاريع وطنية؟ كم سيكون حجم هذه الأموال؟ وكم من المشاريع يمكن أن تنشأ؟ وكم من فرص العمل يمكن أن تُخلق؟ إننا نتحدَّث هنا عن مليارات تُستثمر داخل الكويت، وتعود أرباحها إلى المواطنين أنفسهم، وتُقلل من الاعتماد على الدولة، وتُرسِّخ روح الإنتاج بدل الاستهلاك.

النماذج الدولية... دروس مُلهمة

إن دولاً كثيرة سبقتنا في معالجة هذا التحدي، ونجحت في تحويل مجتمعاتها من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن التبعية إلى التمكين ومن تلك الدول:

• ألمانيا: ترتفع فيها معدلات الادخار، لتصل إلى أكثر من 11 في المئة من الدخل القومي، ويُستخدم هذا الادخار لتمويل مشاريع البنية التحتية والتعليم والبحث العلمي.

• اليابان: رغم انكماش الاقتصاد أحياناً، فإن ثقافة الادخار تبقى حجر الزاوية في قوتها الاجتماعية، بنسبة تجاوزت 20 في المئة في بعض الأعوام.

• سنغافورة: فرضت الدولة نظاماً ذكياً من الادخار الإلزامي عبر «صندوق الادخار المركزي»، والذي يغطي مجالات الصحة، والتعليم، والسكن، والتقاعد.

• ماليزيا: دمجت بين آليات الدعم الحكومي وبرامج الادخار التعاونية، مما ساعدها في إنشاء طبقة وسطى قوية تدعم الاقتصاد الوطني.

كل هذه النماذج انطلقت من وعي عميق بأن الاستهلاك إذا لم يُضبط، فإنه يتحوَّل إلى عبء اقتصادي واجتماعي، وأن الادخار إذا أُحسن توجيهه، فيصبح طوق نجاة، وأداة للنمو والاستقرار.

هذه لحظتنا

اليوم، ونحن نعيش عهداً إصلاحياً تتجدَّد فيه مؤسسات الدولة، ويُعاد فيه ترتيب الأولويات، ونشهد فيه توجهاً حقيقياً نحو تصحيح المسار الإداري والمالي والمجتمعي، فإن إعادة طرح مشروع تغيير النمط الاستهلاكي ليست مجرَّد فكرة، بل ضرورة وطنية، واستجابة واعية لنداء المرحلة.

وفي الجزء الثاني من هذا المقال، سنستكمل طرح الرؤية المقترحة لإحياء هذا المشروع، من خلال خطة وطنية قابلة للتنفيذ، وتكون برعاية مجلس التخطيط، الذي تقع على عاتقه مسؤولية صياغة السياسات الاستراتيجية للدولة.

فإلى اللقاء في الجزء الثاني...

* وزير الصحة الأسبق

back to top