هويتنا الاقتصادية

نشر في 28-04-2025
آخر تحديث 27-04-2025 | 18:23
 د. عبدالعزيز إبراهيم التركي

يحدد الخبراء مفهوم الهوية الاقتصادية على أنها طريقة التصرف في الموارد الاقتصادية (الطبيعية، والبشرية، والمالية) للدولة، ما بين القطاع الخاص أو العام، أو الجمع بينهما، ويحدد كذلك نظام ملكية هذه الموارد، من ملكية عامة أو خاصة أو الجمع بينهما، وعلى طريقة الاختيار بين تلك المبادئ يتم عادة تحديد وجهة النظام الاقتصادي للدولة أو التكتل، فيما إذا كان يتبع النظام الرأسمالي أو الاشتراكي، أو الإسلامي، أو المختلط؟ فالهويات الاقتصادية للدول تأثرت تبعاً لتوجهاتها الاقتصادية وظروفها وأحوالها وتفاعلاتها الاقتصادية والجيوسياسية مع التطورات العالمية والتحالفات والتكتلات القائمة على أسس اقتصادية مثل الاشتراكية والرأسمالية.

ومع التغيرات المتتابعة التي نتجت عن النشاط الاقتصادي الإنساني المتراكم على مدى قرون، لا سيما التوجهات الاقتصادية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى والثانية، انبرت الرأسمالية باعتبارها الهوية الاقتصادية للعالم المنتصر الذي تبنى نظرياتها ومقارباتها الاقتصادية والمالية والنقدية، وظهرت الولايات المتحدة بصفتها اللاعب الاقتصادي الذي حصد ثمار الحرب العالمية الثانية، وعزز مكاسبه بعد تبني الدولار عملة رئيسة للنظام النقدي العالمي والتبادل التجاري وتسعير السلع الأساسية، وتعززت بناء على ذلك مكاسب الدولار التي أعقبت اتفاقية «بريتون وودز»، الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد من صيف عام 1944م في «بريتون وودز» في ولاية «نيوهامبشر» الأميركية.

وقد حضر المؤتمر ممثلون عن 44 دولة، ليضعوا خططاً من أجل استقرار النظام العالمي المالي ولتنمية التبادل التجاري بعد الحرب العالمية الثانية، ونتج عن مؤتمر «بريتون وودز» إنشاء منظمتين دوليتين هما: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، وقد عمل الصندوق على تشجيع الاستقرار المالي الدولي، من خلال توفير المساعدات قصيرة الأجل لمساعدة الأعضاء الذين يواجهون عجزا في ميزان المدفوعات، وقد أعطى البنك قروضاً دولية ذات آجال طويلة خاصة للدول ذات النمو المتدني.

وفي أوائل السبعينيات قامت الولايات المتحدة بالتخلي عن أهم مخرجات «بريتون وودز»، حيث لم يعد الدولار مغطى بالذهب. وبحلول عام 1973 سيطرت قوة العرض والطلب على الدولار وعملات الدول الصناعية الكبرى، وباتت العملات الرئيسة ملجأ لربط العملات الأقل قوة وبناء الاحتياطيات. وفي بداية التسعينيات انطلقت العولمة كهوية اقتصادية للنظام الاقتصادي العالمي، حيث طويت معها صفحة صراع الهويات الأيديولوجية على الصعيد الاقتصادي، فلم يعد هناك مجال للهوية الاشتراكية، أو التخطيط المركزي، فغالبية دول العالم تبنت الهوية الرأسمالية، حتى بالنسبة لروسيا والصين، اللتين كانتا تمثلان هويات اشتراكية من قبل، لكنهما انخرطتا في آليات النظام الاقتصادي الرأسمالي، وانتهجتا آلية الخصخصة، والسعي لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والاندماج في عضوية منظمة التجارة العالمية.

ومع التغييرات الجمركية الحمائية التي فرضتها إدارة ترامب الحالية، التي يراها الكثير من الخبراء أنها أحدثت شرخاً في النظام الاقتصادي العالمي، إلا أنها أثبتت أهمية تبني كل دولة هوية اقتصادية مرنة ترسم الصورة الذهنية للأسس النظرية التي ترتكز عليها الاقتصادات الوطنية لتحقيق الأهداف العامة وتطوير السياسات التي تدير من خلالها البرامج الاقتصادية والتنموية، بما في ذلك إدارة الموارد والمالية العامة والمحافظة على البيئة الاقتصادية الممكنة لتحقيق الرفاه والازدهار الاقتصادي.

والكويت منذ تأسيسها لديها اقتصاد حر ارتبط بالأنشطة البحرية وصناعاتها، وقابل للتطور ويملك مقومات الاقتصاد البرتقالي والاقتصاد الأزرق. فالاقتصاد البرتقالي، وفقاً للأمم المتحدة، هو مفهوم متطور قائم على مساهمة وإمكانات الأصول الإبداعية في النمو الاقتصادي والتنمية، وهو يشمل الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تتفاعل مع التكنولوجيا والملكية الفكرية والأهداف السياحية، فهو مجموعة من الأنشطة الاقتصادية القائمة على المعرفة، ذات بعد تنموي وروابط متداخلة على المستويين الكلي والجزئي للاقتصاد بشكل عام.

وتقدر الأمم المتحدة أن الصناعات الثقافية والإبداعية تمثل 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. أما الاقتصاد الأزرق فيعمل كإطار عمل وسياسة للأنشطة الاقتصادية البحرية المستدامة، كذلك التقنيات البحرية الجديدة، ولعل مبادرة تمويل برنامج الأمم المتحدة للبيئة التي أطلقت في مارس 2021 لتمويل التعافي المستدام للمحيطات، وهو عبارة عن مجموعة أدوات عملية للسوق الأولى للمؤسسات المالية لتوجيه أنشطتها نحو تمويل الاقتصاد الأزرق المستدام.

وتم استكشاف خمسة قطاعات رئيسية للمحيطات، تم اختيارها لارتباطها الراسخ بالتمويل الخاص: المأكولات البحرية، والشحن، والموانئ، والسياحة الساحلية والبحرية، والطاقة البحرية المتجددة، ولا سيما الرياح البحرية. بإمكاننا تبني هوية اقتصادية بحرية إبداعية برتقالية مرنة تتكامل مع التوجهات العالمية في الاقتصاد والتجارة، وتحقق لنا أهـداف التنمية المستدامة السبعة عشر بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، فالكويت لديها إرث بحري وثقافي وإبداعي كونها بدأت من الماء كميناء وأول منطقة حرة في الخليج لتجارة الترانزيت، وستعود إلى الماء مزدهرة باعتمادها رؤية مستقبلية مبنية على هويتنا الاقتصادية.

back to top