نحو سيادة دوائية كويتية... مشروع تنموي وتوصيات للنجاح

نشر في 20-04-2025
آخر تحديث 19-04-2025 | 19:13
 محمد الجارالله

لقد آن الأوان، وفي العهد الجديد، أن تنتقل الكويت من حقبة التبعية الدوائية إلى مرحلة السيادة الصيدلانية، وأن تتحرَّر من قيد الاستيراد العشوائي، لتُصبح الدولة المنتجة والمصدِّرة.

فالصناعة الدوائية ليست ترفاً اقتصادياً، أو فرصة استثمارية واعدة، بل ركيزة من ركائز الأمن الصحي والوطني، كما كشفت جائحة كورونا حين تركت الدول، حتى الأغنى منها، تُصارع للحصول على لقاحات وأدوية ومستلزمات حيوية.

ومن هذا المنطلق نؤكد على المبادرة الحكومية الجديدة الرامية إلى تأسيس صناعة دوائية تنافسية موجهة للتصدير، كما ورد في صحيفة القبس (10 مارس 2025)، فهي خطوة وطنية استراتيجية طال انتظارها. وإذ نبارك هذه المبادرة الحكومية الطموحة، فإننا نضع بين أيدي أصحاب القرار باقة من الاقتراحات المدروسة، التي نراها ضرورية على طريق النجاح، كما يلي:

أولاً: المبادرة تعكس عناصر نجاح استراتيجي

إن المبادرة الحكومية الحالية ليست مجرَّد مشروع تنموي، بل توجُّه استراتيجي يعكس إدراكاً عميقاً لأهمية الأمن الصحي والاقتصادي. إنها مشروع سيادي بامتياز، يحمل عناصر نجاحه، ومن أهمها:

• المبادرة مدعومة بتوجه سياسي وسيادي واضح، ويُعد من أهم عناصر النجاح والاستمرارية.

• التحوُّل من الاستيراد إلى التصنيع المحلي، لا سيما في الأدوية والمستلزمات الحيوية.

• بناء قاعدة للتصدير الإقليمي بمعايير جودة تنافسية.

• تشجيع الاستثمارات العالمية والمحلية في الصناعة الدوائية.

• تأهيل الكوادر الوطنية، وإدماجها في مراكز الإنتاج والتطوير، بدل تكدُّسها ببطالة مقنعة في أروقة الوزارات.

- التكامل مع السياسات الصحية والمالية، مما يتيح شراء المنتجات الوطنية للقطاعين العام والخاص ضمن خطط التوطين والشراء الحكومي.

ثانياً: خريطة طريق واضحة المعالم لنجاح التطبيق

نتمنى أن تتحوَّل هذه المبادرة الحكومية الجديدة إلى واقع فعلي ناجح، لذلك نتوجه لصاحب القرار بهذه الاقتراحات، من أهمها:

- البناء على التجارب الكويتية السابقة

- التجربة الأولى: الشركة الكويتية السعودية للصناعات الدوائية، التي بدأت الإنتاج الفعلي عام 1994. وقد استطاعت تسجيل أكثر من 260 منتجاً دوائياً، وتصديرها لدول الخليج وآسيا وإفريقيا.

- التجربة الثانية: الشركة الوطنية للصناعات الدوائية، التي انطلقت عام 2016، لكنها لم تتمكن من بناء قاعدة إنتاجية واسعة، أو تحقيق أثر ملموس على مستوى السوق المحلي أو الإقليمي.

- هاتان التجربتان تؤكدان أن نجاح الصناعة الدوائية يتطلب رؤية شاملة تتضمن بنية تحتية متخصصة، ودعماً حكومياً ممنهجاً، وهي أمور نأمل أن توفرها المبادرة الحالية.

- دراسة النماذج الخليجية الناجحة

يجب دراسة التجارب الخليجية الناجحة، ومن أهمها الشركة السعودية «سبيماكو الدوائية»، التي تأسست في ثمانينيات القرن الماضي، ونجحت في بناء صناعة وطنية تغطي نسبة كبيرة من احتياجات السوق المحلي، مع تصدير مستقر للدول المجاورة. وفي الإمارات، استطاعت شركة جلفار أن تغزو الأسواق الإقليمية والدولية، مُستفيدة من بنية تحتية قوية، ودعم سياسي وتشريعي مباشر، وتمويل طويل الأجل، وشراكات استراتيجية مع شركات عالمية.

- إنشاء هيئة وطنية مستقلة للدواء: على غرار هيئة الغذاء والدواء الأميركية (FDA)، لضمان ترخيص المنتجات، ومراقبة الجودة بمعايير مهنية مستقلة وشفافة، مما يُعزز الثقة المحلية والدولية بالمنتج الكويتي، أو الانضواء تحت مظلة هيئة خليجية موحدة تختصر المال والجهد.

- إنشاء مدينة دوائية صناعية متكاملة تُدار عبر شراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، وتُشرف عليها هيئة عامة مستقلة ذات طابع احترافي. هذه المدينة الدوائية ليست مجرَّد مجمع مصانع، بل بيئة متكاملة للابتكار، وتطوير الصناعات الدوائية المتقدمة، ومحطة لتدريب الكوادر الوطنية وتأهيلها للمنافسة الإقليمية والدولية.

- الاستثمار الحقيقي في البحث والتطوير (R&D)

يجب تأسيس مراكز بحثية وطنية بالشراكة مع الجامعات، وربط ميزانيات البحث بالتصنيع، وتقديم حوافز للابتكار، خصوصاً في أدوية الجنريك والبايو تكنولوجي، مع تعزيز التعاون مع مراكز دولية مرموقة.

- خريطة إنتاج قائمة على أولويات الصحة الوطنية

يجب أن تنطلق الصناعة من الحاجات الحقيقية للمجتمع، مثل أدوية الضغط والسكري والمضادات الحيوية، حتى نضمن تسويقاً مستقراً، وجدوى اقتصادية مباشرة، وتُكسب الصناعة ثقة الشارع والقطاع الصحي على حد سواء.

- توطين وتأهيل الكوادر البشرية

الاستثمار في العقول الكويتية الشابة هو الضمان الأمثل لاستمرارية المشروع واستقلاليته مع توفير التعلمم الصيدلاني المتميز، وبرامج التدريب والابتعاث، بالتعاون مع مصانع عالمية. وستكون الحل الأمثل لاحتواء الفائض الكبير من القوى البشرية الفنية والإدارية لدى وزارة الصحة، بعد تشغيل مستشفيات الضمان الصحي خلال ‏السنوات المقبلة.

- تمكين القطاع الخاص كمحرِّك أساسي للصناعة

يجب تحفيز القطاع الخاص ليصبح شريكاً أساسياً في الإنتاج، والبحث، والتوزيع، والتصدير. ويجب توفير توفير الحوافز، وتسهيل الإجراءات، ومنح القطاع الخاص مساحة أكبر للمنافسة، حتى نكفل استمرارية الصناعة بمعايير الجودة.

- توفير بيئة تشريعية محفزة ومرنة

الصناعة الدوائية تتطلب قوانين مرنة، وآمنة، وسريعة الاستجابة، لتجذب المستثمر الجاد، مثل قانون خاص ينظم الاستثمار الدوائي، ويقدِّم حوافز ضريبية وإعفاءات جمركية، ليكون بمنزلة البنية الحقيقية لانطلاق القطاع، ولعلها الفرصة السانحة للحكومة.

- تحويل المبادرة إلى رؤية وطنية شاملة تتبناها الدولة ككل، برؤية متكاملة، بحيث تصبح السياسة الدوائية جزءاً من خطة الكويت التنموية، لا مشروعاً عابراً تغيِّره التغييرات الوزارية.

- وضع استراتيجية تسويق وطنية وعالمية

التسويق الحديث المتميز هو الدافع الحقيقي للتصنيع وزيادة الإنتاج، ولنجاح المشروع الضخم يجب دراسة الأسواق القريبة والبعيدة، بفهم دقيق لآليات التسجيل، والأسعار، وسلاسل التوزيع، الربط مع شركات توزيع عالمية، والتنسيق مع الهيئات الدوائية الخليجية والعربية، ما يفتح أبواباً للاستدامة والتوسع.

خاتمة:

إن المبادرة الحكومية في العهد الجديد تمثل إرادة سياسية متكاملة نحو نجاح الصناعة الدوائية الكويتية، حتى ننتقل من التبعية الصحية إلى السيادة الدوائية.

نحن أمام فرصة اقتصادية، ومجال للتميز العلمي، ومنصة لتمكين الشباب الكويتيين وقاطرة نحو السيادة، وأحد مفاتيح التنمية المستدامة. والكويت تملك ما يكفي من رأس المال، والكفاءات، والإرادة لتكون في طليعة هذه النهضة. ومَنْ لا يصنع دواءه، فعليه أن يتوجس من مستقبله.

* وزير الصحة الأسبق

back to top