دوريس ليسينغ
مر عليَّ مقطع مصوَّر قديم، من خلال منصة «إنستغرام»، وكأنه مشهد سينمائي لأحد أبرع مُخرجي الشاشة الفضية على مر العصور. عجوز شمطاء وحالها بدا لي كما وصفها الشاعر عبدالعزيز التميمي (عجوز حطت من عليه وشالت)، ذات خيوط فضية ملأت ناصيتها بشيب يبدو للناظر أنه قديم ومتأصل ومتجذر حتى داخل خلجات نفسها، لا فروة رأسها فحسب. تخرج السيدة من سيارة أجرة، عرفتها مباشرة بأنها تلك الخاصة بإنكلترا التي أحفظ، فقط لينقضَّ عليها مذيع بمُعداته وميكروفوناته، زافاً إليها خبر نيلها جائزة نوبل في الأدب.
هنا فقط بدأت أجمع وأتذكَّر ذاك المنظر المصوَّر المشهور لأحد أهم كُتاب زمننا الحالي لحظة إيصال خبر نيلها جائزة نوبل في الأدب. نعم، هي بذاتها الكاتبة الإنكليزية، والتي تعترف بنفسها بأنها فازت بكل الألقاب والجوائز التي يمكن لأديب أن يحصل عليها، هي ذاتها دوريس ليسينغ.
هذه في الواقع لم تكن إلا مقدمة لبداية ومغزى هذا المقال.
لا يعرف الكثير منا دوريس، وعادة ما ترتبط جائزة نوبل في الأدب مع اسم الأديب الراحل نجيب محفوظ، لكن صاحبتنا دوريس لها قصة عظيمة وجب التوقف عندها، والتأمل في تفاصيلها حقاً.
تفاصيل حياة دوريس كانت مثيرة للاهتمام، وقاسية جداً، فقد وُلدت لأب فقد رجله في الحرب العظمى، وأم تعمل كممرضة، كلاهما من رعايا بريطانيا العظمى.
وُلدت دورس عام 1919، وترعرعت في أوائل أيامها على أرض خورمشاه في إيران، لتنتقل مع والديها إلى زيمبابوي، وتعيش حياة الريف الإدواردي البسيط.
وبعد تلقي تعليم ابتدائي إلى سن الثالثة عشرة، تلقت بعدها التعليم ذاتياً دون الذهاب للمدرسة النظامية. بدأت في الكتابة منذ سن الخامسة عشرة، وبعد ذلك عملها كمساعد ممرض، وانطلاقة وتبلور رأيها السياسي وزواجها وطلاقها وتركها أولادها مع أبيهم، غير آبهة بحضانتهم أو حتى رعايتهم.
برأيي الشخصي، هكذا تصرُّفات تنجم وتنم عن شخصية دوريس الحقيقية، التي تظهر في كتاباتها أيضاً، وهي ذات جانب انتقامي سوداوي أحياناً ناقم على الحياة والأرض والكون، خصوصاً أنها كانت ترى أن والدتها قد وقعت في مصيدة مشابهة بالبقاء في المنزل دون ممارسة حياة فكرية تنافسية.
وما بين زيجاتها وعلاقاتها وأطفالها وصراع الأفكار والآراء الاشتراكية السياسية التي تحملها، انطلق من رحم هذا كُله نجاحها في النشر مطلع الثمانينيات ما بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة كذلك.
وهنا نعود إلى مقدمة المقال، سيدة عجوز تتلقى خبر نيلها أكبر جائزة تقديرية في الأدب فقط لتتصرَّف بدم بارد بعدما قاست وعانت الأمرّين من ظروف الحياة الصعبة.
وعليه، ورداً على مَنْ يقول إن تهيئة الظروف المناسبة تصنع العظماء، أعتقد أن لدي شيئاً من الحق حين أتمسَّك برأيي، وأقول إن الظروف والبيئة هي التي تصنع العظماء.
تُوفيت دوريس عام 2013 بعد صراع مع عدة أمراض وأثار جلطات لازمتها خلال سنواتها الأخيرة، تاركةً خلفها إرثاً كبيراً من الآراء الماركسية، إضافة إلى انتمائها في أواخر حياتها للمعتقدات الصوفية الروحانية مع مكتبة عظيمة من الأدب الإنكليزي المعاصر.
على الهامش: تعليقاً على مبادرة الرئيس ترامب بشأن دراسة قرار رفع الرسوم الجمركية ولمدة 90 يوماً بعد «الزيطة والزمبليطة» والزوبعة الإعلامية، لا يسعني إلا أن أردد مثلاً قديماً يمثل لسان حال ترامب بعد ردود الفعل الدولية: اللي ما يرضى بعصا موسى، بيرضى بعصا فرعون. هذا بالطبع كما ورد بصحيفة القبس الكويتية في 7 أبريل، والذي صدر بعده نفي على لسان البيت الأبيض.
ويبقى السؤال هنا كالآتي: هل بدأ البيت الأبيض باتباع سياسة بالونات الاختبار؟! والأهم من هذا كله، هل يمكن للحرب التجارية ذات شعار «التعرفة العادلة» ما بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، أن تنتهي على خير؟! أشك حقاً في ذلك.
عموماً، كانت آخر حلقة في هذا المسلسل أن يتم التعليق مرة أخرى للدول التي لم تعارض! والصين ترد بتعرفة مئوية، والله المستعان، والله يستر علينا.
هامش أخير: الأنباء والجداول المتواترة بوسائل التواصل الاجتماعي للقطع المبرمج على المناطق السكنية، وقبلها القسائم الزراعية والصناعية، يفرض سوالاً مُستحقاً: ماذا كانت تعمل الحكومة في غضون العام المنصرم بعد معاناة القطع المبرمج الذي مررنا به سابقاً؟!
بدء انقطاع الكهرباء منذ يوم التاسع من أبريل في المناطق السكنية أعاد إحياء كل مشاعر الحسرة لذات الأمر في العام الماضي. الحلول كانت موجودة ومتوافرة، والله المستعان.