على رمال المقبرة تكلم الشعر: تأملٌ في الحياة... ورثاءٌ لأبي حازم
يقول أبو العتاهية، شاعر الزهد والحكمة:
أَخَوَيَّ مُرّا بِالقُبورِ، فَسَلِّما قَبلَ المَسيرِ
ثُمَّ ادعوا يا مَن بِها، مِن ماجِدٍ قَرمٍ فَخورِ
وَمُسَوَّدٍ رَحبِ الفِناءِ، أَغَرَّ كَالقَمَرِ المُنيرِ
يا مَن تَضَمَّنَتْهُ المَقابِرُ، مِن صَغيرٍ أَو كَبيرِ
هَلْ فيكُمُ مِنْ مُستَجارٍ أو مُجير؟
أَهلَ القُبورِ أَحِبَّتي، بَعدَ الجَزالَةِ وَالسُّرورِ
بَعدَ الغَضارَةِ وَالنَضارَةِ، وَالتَنَعُّمِ وَالحُبورِ
بَعدَ المَشاهِدِ وَالمَجالِسِ، وَالدَساكِرِ وَالقُصورِ
بَعدَ الحِسانِ المُسمِعاتِ، وَبَعدَ رَبّاتِ الخُدورِ
أَصبَحتُم تَحتَ الثَرى، بَينَ الصَفائِحِ وَالصُّخورِ
أَهلَ القُبورِ إِلَيكُمُ، لا بُدَّ عاقِبَةُ المَصيرِ
تلك الأبيات، وإن جرت على ألسنة الزائرين، فإنها لا تزال تسكب الحكمة في قلب من يتأمل أحوال الموتى، وتوقظ في النفس ذكرى من مضوا، وتردّنا إلى جوهر الحقيقة التي تغيب في زحمة الحياة. نقف على القبور لا لنرثي، بل لنتّعظ. ولعل من أعظم العبر أن يقف المرء على قبر من أحب، وقد رحل عن الدنيا على سكينة، مخلفاً من الذكرى ما لا تمحوه الأيام.
على رمال المقبرة، حيث ينحسر ضجيج الدنيا وتفترش الأرواح الصمت، وقفنا نُشيّع رجلاً نادر المثال، خافت الخطى، رفيع المنزلة، عذب الطبع، نقيّ السريرة. وقف الشعر متأملاً، يتردد بين أن يبكي فجيعة الغياب، أو أن يشهد لطمأنينة الراحل، وكأن السكينة التي لازمته في دنياه قد امتدت إلى لحده، تظلله في مأواه الأخير كما كانت تلازمه في محياه.
خالد الجارالله، أبا حازم، ما كان يمرّ على القلوب إلا كنَسَماتٍ هادئة، لا تصخب ولا تصدح، لكنها تُنشئ في النفس ألف ارتياح. كان من أولئك الذين إذا ابتسموا أشرقت وجوههم بنور المودّة، وإذا صمتوا أنصت الناس لمهابة السكينة فيهم. رجل لا يُشاكس، ولا يُخاصم، قليل الكلام، كثير الفعل، رحبُ الصدر، سليمُ النية. لا مشاحنات، لا خصومات، لا جلبة ولا ضجيج. عاش كما يعيش الحكماء إذا صفَت نفوسهم من كدر الدنيا، وترفّعوا عن المهاترات، فكان صفاء المحيا مرآةً لنبل النوايا.
ومع أن زملاءه في السلك الدبلوماسي قد كتبوا عن سِعة أفقه، وعن المدرسة السياسية التي أسسها في أدائه وهدوئه وحنكته، إلا أنني لا أود الحديث عن تلك الزاوية التي نال فيها من التقدير ما هو أهل له. إن ما يعنيني اليوم، وما يسكُن وجداني، هو صورة أخرى له، صورة الإنسان في أبهى تجلياته، الإنسان الذي لم تتبدل طباعه رغم رِفعة المنصب، ولم يضق صدره رغم تعاقب المهمات.
ما من أحد جالسه إلا شهد له بعفّة اللسان، ونقاء القلب، وهدوء الطبع، وكأنه وُلد وفي قلبه سَعة لا يملؤها ضيق، ولا تُكدّرها الخصومة. كان في بيته كما هو في حياته، بسيطاً، قريباً، لا يرفع صوته، ولا يؤذي خاطراً، ولا يُحرج محتاجاً. إذا تكلم لم يجرح، وإذا خاصم لم يهتك، وإذا وُجِه له اللوم قابلَه بصمت الوقور، لا بردّ المتعالي.
ولم تكن محبته محصورة في أهله ومعارفه، بل تجلّت حقيقتها بعد وفاته، إذ تقاطر إلى قبره على مدى ثلاثة أيام غرباء لا نعرفهم، ولا يعرفهم أبناؤه، ولا أصدقاؤه، رجالٌ جاءوا فرادى ومثاني، بعد الصلاة أو قبلها، وقوفاً على ترابٍ لامس قلوبهم، يبكونه بحرقة، ويدعون له بصدق، لا رياء ولا سمعة، بل محبةٌ نقيةٌ لا تفسير لها، إلا أنه كان يخدمهم بصمت، ويقضي حوائجهم من غير أن يذكر، ويواسيهم دون أن ينتظر شكراً أو جزاءً.
كأن وفاته كانت جرساً نبّهنا إلى حقيقة خفية طالما أخفاها تواضعه: أن الخير كان يجري في عروقه، لا تكلّفًا بل سجيّة. لم تكن يداه تبطئان عن معروف، ولا قلبه يُقفل دون حاجة ضعيف أو ألم مستغيث.
ولأن النهاية مرآة البداية، كانت وفاته درساً آخر. في العشر الأواخر من رمضان، في ساعة من ساعات المغفرة، بعد أن أتم صيامه، وبين يدي الله في صلاة المغرب، راكعاً في بيت من بيوته، أتته المنية برفق. وإنها، لعمري، من شواهد حسن الخاتمة. ولكن لم يكن أبا حازم ذلك الداعية أو المتنسك الظاهر حتى نقول إنها خاتمة متوقعة. إذاً فما سرّ هذه الخاتمة؟ لا أعلم أصدق من قوله عليه الصلاة والسلام: “الخَبيئة”، العملُ الخفيّ، الذي لا يعلمه الناس، ولكن يعلمه ربّ الناس.
وفي لحظات الفقد، لا نكاد نجد من البلاغة ما يعادل الحزن، لكننا نستأنس بالحكمة، ونلوذ بشعر الزهد، خصوصاً حين يأتي من أبي العتاهية:
كَم مِن أَخٍ لي قَد وَقَفتُ بِقَبرِهِ
فَدَعَوتُهُ لِلَّهِ دَرُّكَ مِن فَتى
أَأُخَيَّ لَم يَقِكَ المَنِيَّةَ إِذ أَتَت
ما كانَ أَطعَمَكَ الطَبيبُ وَما سَقى
أَأُخَيَّ كَيفَ وَجَدتَ مَسَّ خُشونَةِ الـ
ـمَأوى وَكَيفَ وَجَدتَ ضيقَ المُتَّكا؟
قَد كُنتُ أَفرَقُ مِن فِراقِكَ سالِماً
فَأَجَلُّ مِنهُ فِراقُ دائِرَةِ الرَدى
فَاليَومَ حَقَّ لي التَوَجُّعُ إِذ جَرى
قَدَرُ الإِلَهِ عَلَيَّ فيكَ بِما جَرى
تَبكيكَ عَيني ثُمَّ قَلبي حَسرَةً
وَتَقَطُّعاً مِنهُ عَلَيكَ إِذا بَكى
وَإِذا ذَكَرتُكَ يا أُخَيَّ تَقَطَّعَت
كَبِدي فَأُقلِقتُ الجَوانِحُ وَالحَشا
كأننا نحن اليوم من نُردّد هذه الأبيات، نُخاطب بها خالداً وقد سكن تحت الثرى وندعو له بطيب المآل.
سلامٌ عليك يا أبا حازم في مثواك، وسلامٌ على هدوئك الذي علّمنا أن الرجال لا يحتاجون إلى ضجيجٍ ليثبتوا حضورهم، وسلامٌ على تلك الابتسامة الصامتة التي كانت تختصر كثيراً مما لا تقوله الكلمات.
اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأكرم نزله، وارزقنا في فقده الصبر الجميل، وامنحه في لقائك ما وعدت به عبادك المحسنين.
* وزير الصحة الأسبق