وجهة نظر: وهم القوة: كيف تقوض سياسة التعريفات القومية القيادة العالمية لأميركا؟
• نوع جديد من إعادة التوزيع مغلف بالعلم الوطني
في تبدل أيديولوجي مذهل، تشهد الولايات المتحدة تحولاً اقتصادياً شاملاً الأولوية فيه لإعادة التوزيع التي تقودها الدولة وحماية التجارة على حساب مبادئ السوق الحرة. لكن هذه المرة، لا يُعرض ذلك كإصلاح تقدّمي، بل يُغلّف بخطاب قومي وشعارات عن «النهضة» و«استعادة العظمة».
السياسات التي كانت تُوصف يوماً بـ «الاشتراكية» باتت تُنفّذ الآن تحت قيادة محافظة ويُحتفى بها من قبل من كانوا ذات يوم أنصاراً للأسواق المفتوحة. المبادئ الاقتصادية الراسخة، كحرية السوق، والتجارة العالمية، والانضباط المالي أُزِيحت جانباً لمصلحة التعريفات الجمركية، ودعم الصناعة، والضوابط المركزية من أعلى إلى أسفل.
المفارقة صارخة: أولئك الذين سخروا ذات يوم من الاقتصاد المُوجّه أصبحوا الآن من أبرز ممارسيه.
لكن رغم تغيّر التغليف السياسي، فإن الجوهر لا يزال واحداً: تدخل كبير من الدولة وإعادة توزيع للثروات تحت ذريعة «النهضة الوطنية». وهنا يظهر سؤال أعمق وأكثر إلحاحاً: ما الذي يجعل أحداً يعتقد أن هذه الأدوات التي ثبت فشلها مراراً ستنجح الآن لمجرد أنها تأتي بملصق جديد؟
ديجا فو: لقد مرت أميركا بهذا من قبل
لفهم هشاشة هذا التحوّل، من المفيد الرجوع إلى تجارب الولايات المتحدة السابقة مع التدخلات الاقتصادية الكبرى. خلال الكساد الكبير، كان هدف سياسة «الصفقة الجديدة» لفرانكلين روزفلت إنقاذ الاقتصاد المنهار عبر برامج فدرالية واسعة النطاق. تم التخلي عن قاعدة الذهب كغطاء للعملة، وتخفيض قيمة الدولار، وضُخّت مليارات الدولارات في مشاريع الأشغال العامة. تحوّل دور الحكومة الفدرالية بشكل جذري، وأضفى ذلك استقراراً مؤقتاً، لكنه أيضاً رسّخ تدخل الدولة في الأسواق وأرسى هياكل للضمان الاجتماعي لم تُلغَ حتى اليوم.
نبه منتقدون مثل هنري هازليت في مقالاته بصحيفة نيويورك تايمز في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى أن هذه البرامج تشوه العرض والطلب، وتضعف الابتكار، وتُراكم أوجه القصور طويلة الأجل. مع ذلك، شكّلت «الصفقة الجديدة» نموذجاً للسياسات الاقتصادية الأميركية لعقود لاحقة.
لاحقاً، وضع هاري ترومان «الصفقة العادلة»، وهي عبارة عن توسيع لتلك السياسات، مضيفاً الحد الأدنى للأجور، ودعم السكن، وبرامج اجتماعية موسعة. وفي الستينيات، أطلق ليندون جونسون مشروع «المجتمع العظيم» الذي ضم أكثر من 80 برنامجاً للرعاية، وتجاوز الإنفاق العام فيه 23 تريليون دولار (بعد احتساب التضخم).
ورغم النوايا الحسنة، كانت النتائج متفاوتة. فبحسب مؤسسة «هيريتيج»، ظل معدل الفقر الأميركي ثابتاً تقريباً منذ إعلان جونسون الحرب على الفقر. توسعت الحكومة، وتضخمت البيروقراطيات، وظهرت أنظمة اعتمادية يصعب إصلاحها. السؤال آنذاك، كما هو الآن، كان حول التوازن: متى تصبح الحماية شللاً؟ ومتى تتحول إعادة التوزيع من دعم للفئات الضعيفة إلى إضعاف للنظام نفسه؟
تحذيرات التاريخ: حينما ترتد القوى العظمى إلى الداخل
هذا المنحى ليس خطأ أميركياً حصرياً. تُظهر التجربة التاريخية أن الانكفاء الاقتصادي، حين يُحسب خطأ على أنه قوة، يؤدي في العادة إلى التراجع العالمي.
بريطانيا... من إمبراطورية إلى عزلة
بعد الحرب العالمية الأولى، وجدت بريطانيا، التي كانت يوماً ما أكبر قوة تجارية عالمية، نفسها منهكة وضعيفة. اعتمدت في الثلاثينيات تعريفات جمركية حمائية، وفرضت «تفضيلات إمبراطورية» لعزل أسواقها عن المنافسة. لكن النتيجة جاءت عكسية: جمود في الصناعات، تباطؤ في الابتكار، وتراجع في النفوذ العالمي.
ومع تقلص التجارة، فقدت بريطانيا قبضتها على إمبراطوريتها. وسرعان ما ملأت الولايات المتحدة الفراغ الناتج عن تراجعها.
إسبانيا: الاكتفاء الذاتي والركود
بعد الحرب الأهلية في إسبانيا، انتهج نظام فرانكو سياسة «الاكتفاء الذاتي»، فقلّص الاستيراد، ورفض الاستثمار الأجنبي، وسعى للاعتماد الكامل على الذات. لكن هذا النموذج، المدفوع بالفخر القومي، فشل فشلاً ذريعاً.
عانت إسبانيا سنوات من الندرة والتخلف والتراجع التكنولوجي. ولم تبدأ في التقدّم إلا بعد تحرير تجارتها واستقطاب رؤوس الأموال في الستينيات. تحولت التجربة الإسبانية إلى درس تحذيري في كتب السياسات الأوروبية.
الصين: ثمن الانعزال
من أبرز الأمثلة التاريخية: الصين الإمبراطورية. ففي القرن الخامس عشر، وأوج قوتها البحرية والاقتصادية، قررت أسرة مينغ تفكيك أساطيلها، وتقييد تجارتها الخارجية، والانكفاء إلى الداخل. والنتيجة: قرون من الجمود. وعندما وصلت القوى الغربية في القرن التاسع عشر، كانت الصين غير مهيّأة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. وهكذا انطلق «قرن الذل» في الصين ليس بالعدوان الخارجي، بل بانعزال ذاتي قاتل.
واللافت أن الصين الحديثة تعلّمت هذا الدرس بعمق. نهوضها لم يكن بفضل الانغلاق، بل العكس تماماً: دمجت التخطيط المركزي مع الانفتاح العالمي، وصارت مصنع العالم، وامتصّت سلاسل الإمداد، وربطت القارات عبر مبادرة الحزام والطريق.
العالم تغيّر لكن أميركا لم تفعل
فما الذي يميز هذه اللحظة عن التجارب السابقة لإعادة التوزيع الأميركية؟ ببساطة: العالم لم يعد متخلفاً عن الركب. في زمن روزفلت وترومان وجونسون، لم تكن لأميركا منافسة حقيقية. أوروبا كانت تتعافى من الحرب. آسيا متخلفة. أميركا اللاتينية وإفريقيا هامشيتان.
كان بإمكان أميركا أن ترفع التعريفات، وتخفض عملتها، وتنفق بلا حساب ولن يجرؤ أحد على منافستها.
أما اليوم، فالعالم متعدد الأقطاب، متوازن، ومستعد:
• الصين تهيمن على معادن الأرض النادرة، وسلاسل توريد البطاريات الكهربائية، وتحتفظ بأكثر من 775 مليار دولار من سندات الخزانة الأميركية.
• الهند وجهة أولى للاستثمار الأجنبي المباشر، ونظامها الصناعي يتوسع ضمن استراتيجية «صنع في الهند».
• الاتحاد الأوروبي يستثمر في أشباه الموصلات والطاقة المتجددة وتنظيمات رقمية تحدّ من النفوذ الأميركي.
هذه الكتل تعيد رسم الحوكمة الاقتصادية العالمية، وغالباً دون إذن أميركي أو قيادتها.
تقلّبات السياسة الأميركية تؤشّر إلى هشاشة أعمق
في أبريل 2025، تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب فجأة عن سياسات التعريفات التي طالما دافع عنها. وفي 10 أبريل، جمّد فرض تعريفات جديدة لمدة 90 يوماً، باستثناء الصين والمكسيك وكندا. وبعد يومين فقط، أعفى جميع الإلكترونيات والحواسيب والهواتف من الصين من هذه الرسوم في تراجع عن خطابه الاقتصادي نفسه. ما الذي دفع هذا الانقلاب؟ الأغلب أنه تقلب الأسواق، واضطرابات سلاسل الإمداد، وضغوط كبرى من الشركات الأميركية. لكن الأثر يتجاوز السياسات المحلية. السؤال الأهم: هل لا يزال العالم يثق بقيادة أميركا الاقتصادية؟ في اقتصاد عالمي حيث الثقة هي العملة الحقيقية، فإن تقلب السياسات يسبب أضرارًا تفوق أي مكاسب سياسية قصيرة المدى.
مأزق الدولار: هل يتعرض وضعه كعملة احتياط عالمية للتهديد؟
من المخاطر التي لم يُقدّر حجمها بعد: تآكل هيمنة الدولار العالمي. طوال عقود، شكّل الدولار حجر الزاوية في التمويل الدولي اذ يُستخدم في 88 في المئة من تداولات العملات الأجنبية، وتحتفظ به البنوك المركزية حول العالم. من خلاله، اقترضت أميركا بسعر زهيد، وفرضت عقوبات، ولعبت دور «مرساة” الاقتصاد العالمي.
لكن هذا التفوّق بات محل تساؤل لعدة أسباب أبرزها:
• تحالف البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا) يُسرّع جهود “إلغاء الدولار”. تقارير متعددة في 2024 (من رويترز وبلومبرغ) تؤكد أن هه الدول تدرس إطلاق عملة احتياط مدعومة بالذهب والسلع.
• الصين وروسيا تُجريان أكثر من 70 في المئة من تجارتهما الثنائية باليوان أو الروبل.
• الهند بدأت تسديد بعض وارداتها النفطية بالروبية.
• حتى السعودية ألمحت إلى قبول مدفوعات بعملات غير الدولار.
ليس هذا دافعاً أيديولوجياً، بل خيار استراتيجي، ينبع من شعور متنامٍ بأن الدولار لم يعد محايدًا أو موثوقًا. حين تُفرض الرسوم وتُلغى خلال 48 ساعة، وحين تُجمّد الاحتياطات الأجنبية في الخلافات الجيوسياسية، ويُستخدم الدولار كـ”سلاح” بدلًا من كونه أساسًا، تبدأ الدول بالبحث عن بدائل.
إذا استمرت هذه الاتجاهات، فالعواقب على أميركا قد تكون جسيمة وأخطرها:
• ارتفاع تكاليف الاقتراض مع تراجع الطلب العالمي على ديونها.
• انخفاض فعالية العقوبات الاقتصادية وفقدان النفوذ على طرق التجارة.
• ضعف الدولار مما يسرّع التضخم ويُضعف القدرة الشرائية للمواطن.
• وربما الأهم: فقدان الثقة العالمية التي بُنيت خلال قرن تقريبًا.
من الذي سيملأ الفراغ؟
• الصين ببنيتها التحتية الممولة عبر الحزام والطريق، والتوسع في استخدام اليوان الرقمي.
• الهند، أسرع اقتصاد كبير نمواً، تُعتبر شريكاً تجارياً محايداً وديموقراطياً.
• الاتحاد الأوروبي، بما لديه من استقرار تنظيمي، مؤسسات قوية، وثاني أكثر العملات تداولًا: اليورو. هل ألحق ترامب ضررًا يفوق نفعه؟ وهل هذا الضرر قابل للإصلاح؟ هذا ما بات المستثمرون والدبلوماسيون والاقتصاديون يتساءلون عنه بهدوء. فحين تهتز الثقة في عملة وخاصة عملة احتياط لا تُرمّم بقرار لمدة 90 يومًا. وإذا خلص العالم إلى أن الولايات المتحدة لم تعد جديرة بقيادة الاقتصاد العالمي بثبات ووضوح، فقد لا ينتظر أن تستقر. بل يمضي قدمًا.
الوهم لن يصمد
المسألة ليست يميناً أو يساراً. وليست سياسة فقط. إنها مسألة حساب، وتبعات، ومصداقية. التعريفات الجمركية القومية لا تخلق وظائف جديدة بل تدمر القديمة. لا تعاقب الخصوم، بل تضر المستهلكين. لا تعيد الهيمنة، بل تُسرّع التراجع.
ما كان لدى روزفلت وترومان وجونسون هو «الوقت»، و«الاحتكار». أما أميركا اليوم، فليس لديها أيّ منهما.
اللاعبون العالميون أسرع، وأفضل استعداداً، وأكثر تنسيقاً من أي وقت مضى. وهم يبنون بهدوء النظام العالمي التالي، فيما تنشغل أميركا بالانتصارات اللحظية.
ما لم تصحح أميركا مسارها نحو الانفتاح، والمرونة، ورؤية طويلة الأمد، فلن تبقى مهندسة النظام العالمي، بل ستتحول إلى مجرد درس تحذيري في كتبه.