الدبلوماسية في مواجهة الاحتلال: مسار شاق لاستعادة الحقوق اللبنانية

نشر في 14-04-2025
آخر تحديث 13-04-2025 | 18:13
 د. بلال عقل الصنديد

لا يزال الجدل محتدماً في لبنان بين من يؤمن بأن استعادة الأرض والأسرى لا تتحقق إلا بقوة ‏السلاح، وبين من يرى في الدبلوماسية فرصة للحصول على المكاسب على قاعدة «خذ وطالب». ورغم ‏امتلاك كلا الطرفين أسانيد نظرية ومبررات واقعية، لم يستطع أي منهما إقناع عموم الشعب اللبناني ‏بشكل حاسم، وذلك ليس لضعف في حججه أو فشل في أدائه، بل بسبب تعنّت العدو الصهيوني ‏والاستمرار في غطرسته، مستغلاً الدعم الأميركي العسكري والسياسي غير المحدود، مما يجعل أنصار ‏المقاومة يجدون صعوبة في تقديم المزيد من التضحيات الثمينة، في حين يقف دعاة الدبلوماسية بحرج ‏أمام حجم الدماء المسالة والدمار المروّع.

ومن حيث أن الخيار الدبلوماسي مطروح على الطاولة بجدّية هذه المرّة، فإنه يستحق ‏التمحيص بما يرتبط به من أساليب معتمدة لاستعادة الحقوق والسيادة، وما قد يخلص اليه من نتائج ‏يحول بين تحقيقها بسلاسة ونجاعة عدد من التحديات الثابتة، فمن خلال مقاربة التجارب الدولية ‏السابقة، يمكن استشفاف الدروس والعقبات التي قد تساعد في بلورة استراتيجية متوازنة، تزاوج بين ‏التفاوض والحفاظ على المكتسبات والحقوق الوطنية.

***‏

من الناحية النظرية، تستند دبلوماسية «التحرير» إلى أساليب تجمع بين الحوار والحنكة ‏السياسية، مع الانطلاق من موقف داخلي موحّد والالتزام بمبادئ بالقانون الدولي، تبدأ هذه المقاربة ‏بـ«المفاوضات» المباشرة أو غير المباشرة مع تعزيزها بـ«الوساطة الدولية» كأداة محايدة، في حين ‏تلعب «الدبلوماسية الوقائية» دوراً مهماً في منع تصاعد النزاعات، بينما يبقى اللجوء إلى «المحاكم ‏الدولية» خياراً قانونياً لإعلاء العدالة، وتبقى «العقوبات الدبلوماسية» والتحالفات السياسية أدوات ضغط ‏حاسمة تستخدم لدفع الطرف المعتدي إلى احترام السيادة واسترداد الحقوق.

السوابق على الساحة الدولية متعددة الأوجه، على سبيل المثال، تمت استعادة هونغ كونغ من ‏بريطانيا إلى الصين عام 1997 من خلال مفاوضات طويلة أدت إلى اتفاقية «دولة واحدة بنظامين»، ‏بينما أنهت اتفاقية كامب ديفيد 1978 النزاع بين مصر وإسرائيل عبر الوساطة الأميركية، مما مكّن ‏مصر من استعادة سيناء.‏ وفي سياق «الدبلوماسية الوقائية»، شكّل استقلال إستونيا عام 1991 مثالاً ‏على استخدام الحوار السلمي لتجنب الصراع مع الاتحاد السوفياتي. ومن جانب آخر تمكنت محكمة ‏العدل الدولية في عام 2002 من حسم نزاع دولي بين الكاميرون ونيجيريا بشأن شبه جزيرة غنية ‏بالنفط والموارد الطبيعية، في حين كانت العقوبات الاقتصادية والقطيعة الدبلوماسية فعّالة في إنهاء ‏نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بعد أن أدت إلى عزلته وتسريع التحول إلى حكم ديموقراطي.

***

ورغم ما أنتجه منطق التحرير بالقوة من تضحيات كبرى وخسائر فادحة على كل الصعد، ‏وأبرزها التصدّع في الموقف الشعبي والرسمي، فإن تبني الحكومة اللبنانية لنهج استعادة الأراضي ‏المحتلة والحقوق المغتصبة عبر التفاوض والدبلوماسية ليس أمراً سهل المنال -لا بالموقف منه ولا ‏بالنتائج المرتقبة- اذ تواجه هذا المسار جملة من التحديات التي تتطلب مزيجاً من الواقعية السياسية ‏والحنكة الدبلوماسية والتمسك الصارم بمبادئ القانون الدولي مع تماسك وطني طويل الأمد وثابت ‏الركائز.‏

فإذا ما اعتمد لبنان الرسمي نهج المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة كخيار متاح وفق ‏منطق القانون الدولي، عليه -بلا أدنى شك- تخطّي مجموعة كبيرة من العقبات الجدّية، التي ليس أقلها ‏غياب الثقة بالعدو الصهيوني الذي ما زال مستمراً بشكل يومي في فرض وقائع جديدة على الأرض، ‏وكما عانت مفاوضات «كامب ديفيد» من تعقيدات المصالح المتباينة، يجد لبنان نفسه أمام معضلة ‏تداخل المصالح الدولية والإقليمية، ما يفرض على الحكومة قدرة استثنائية على المناورة الدبلوماسية.

إلى جانب المفاوضات، تُعد الوساطة الدولية إحدى الأدوات الأساسية التي قد يلجأ إليها لبنان، ‏إلا أن تحدي الانحياز السياسي لبعض الوسطاء يبقى حاضراً، فالوساطة الناجحة تتطلب بيئة دولية ‏متوازنة، وهو ما قد يفتقر إليه لبنان في ظل النفوذ الدولي والإقليمي المتشابك في منطقة الشرق ‏الأوسط، حيث تلقي النزاعات الإقليمية والصراع الإيراني-الغربي بظلالها على قدرة لبنان على ‏الصمود.

أما الدبلوماسية الوقائية التي تتطلب وحدة الصف الداخلي، فإنها تواجه عوائق حقيقية في الحالة ‏اللبنانية، يضاعفها استمرار التعديات الإسرائيلية على الحدود الجنوبية وعلى كل المناطق اللبنانية، ‏مع ضعف منطق الدولة وقدرة الجيش اللبناني على احتكار القرار السيادي، ناهيك عن تأثير التباين ‏السياسي والشعبي حيال القضايا الكبرى على قدرة الحكومة في تبني موقف موحد وصلب في المحافل ‏الدولية.

من جهة أخرى، يظل اللجوء إلى القضاء الدولي خياراً قائماً، لكنه محفوف بالمعوقات في ظل ‏عدم اعتراف الكيان الغاصب بولاية المحاكم الدولية على النزاعات الحدودية، فيما يستحيل -في ‏الوقت الراهن- الارتكان إلى منطق العقوبات الاقتصادية والقطيعة الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني ‏لأسباب معروفة.‏

‏***‏

بالنظر إلى كل هذه العوامل مجتمعة، ومن حيث إن استعادة الأراضي المحتلة والحقوق ‏اللبنانية -بمنطق الدبلوماسية أم بقوة السلاح- تتطلب مساراً طويل الأمد وتضحيات جمّة تعب وعجز ‏اللبنانيون عن تقديمها على مذبح المصالح الدولية والاقليمية المتداخلة، فإن سياسة «الصبر ‏الاستراتيجي» التي يجب أن يتبعها لبنان الرسمي والشعبي، تتجاوز مسألة اتخاذ الخيار المباشر ‏بالمقاومة أم التفاوض، لتصل إلى وجوب الحفاظ على الاستقرار الداخلي وتوحيد الموقف الوطني أولاً ‏وقبل كل شيء، تمهّد لبناء صورة دولية متماسكة تعكس حق لبنان في استرداد سيادته وفقاً لشرعية ‏القانون الدولي مع أهمية تعزيز الحضور القانوني في المحافل الدولية وتوظيف التحالفات السياسية. ‏

* كاتب ومستشار قانوني

back to top