شرايين الاقتصاد... توجد أسفل المحيطات
يشكِّل الإنترنت والتكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وبات من الصعب تخيُّل عالم من دونهما، فالإنترنت يوفر كماً هائلاً من المعلومات، حيث تتدفق من خلال الشبكة العنكبوتية أكثر من 95 في المئة من حركة البيانات العالمية، بما في ذلك رسائل البريد الإلكتروني، ومكالمات الصوت والفيديو، والمعاملات المالية، وتدفقات المحتوى الترفيهي، ومحركات الذكاء الاصطناعي.
حركة البيانات عبر القارات تتم بسرعة الضوء عبر كوابل من الألياف الزجاجية الدقيقة ممدودة تحت أمواج البحار والمحيطات تعمل بصمت كشرايين حيوية تغذي الاقتصاد العالمي. هذه الكابلات ليست مجرَّد وصلات للاتصالات، بل هي الأساس الذي تقوم عليه التجارة الدولية، والتمويل العالمي، وتبادل المعرفة، والتواصل الاجتماعي، فهي تمكِّن المؤسسات المالية من إجراء معاملات فورية عبر الحدود، وتسمح للشركات متعددة الجنسيات بإدارة عملياتها المنتشرة حول العالم بكفاءة، كما تدعم سلاسل التوريد العالمية المعقدة، مما يتيح التنسيق اللوجستي وتبادل المعلومات الضروريين لحركة البضائع والخدمات.
توفر هذه الكوابل البحرية سعة نقل هائلة تفوق بكثير قدرات الأقمار الصناعية. من دون هذه الشبكة الواسعة، سيواجه العالم انقطاعاً شبه كامل في الاتصالات بعيدة المدى، مما سيشل الاقتصاد العالمي، إضافة إلى جوانب لا حصر لها من الحياة الحديثة.
رغم أهميتها الحيوية، تواجه كابلات الألياف الضوئية أسفل البحار والمحيطات تحديات، مثل: التلف الناتج عن الأنشطة البحرية، والكوارث الطبيعية، والتخريب المتعمَّد، لذلك تتطلَّب صيانتها وحمايتها استثمارات مستمرة وتعاوناً دولياً. ومع استمرار تزايد الطلب على البيانات بنمو سنوي مقدَّر بـ 35 في المئة (أي تتضاعف حجم البيانات كل 3 سنوات)، يزداد الضغط على هذه البنية التحتية لتوفير المزيد من السعة والسرعة.
لا أبالغ بالقول إن بعض الدول، لا سيما القريبة، تعتبر الاستثمار بالكوابل الدولية جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي، آخذين بالاعتبار الآثار الاقتصادية المدمرة إذا خرجت هذه الكوابل عن الخدمة، وأصبح البلد معزولاً عن العالم، ولو لفترة محدودة.
السعودية والإمارات وعمان، مثلاً، بدأت منذ سنوات بعيدة الاستثمار في الكوابل البحرية، من خلال إنشاء تحالفات مع شركات ناقلة (Carriers)، وشركات اتصالات دولية كبرى، مستفيدة من موقعها الجغرافي القريب من البحار المفتوحة، لإنشاء أنظمة بحرية تربط دولها بشرق آسيا وإفريقيا وأوروبا بعدد تعدَّى حالياً 15 تحالفاً لكل دولة، تمثلها بهذه التحالفات شركات اتصالات محلية مملوكة للدولة.
أخيراً، استوعبت قطر والبحرين أهمية الأمر، ومن منظور أمن وطني، بدأت السعي بالدخول في تحالفات دولية مماثلة، بتوجه وتمويل حكومي.
أما نحن بالكويت، فغياب الاستراتيجية الحكومية بهذا الشأن جلي وواضح. يوجد حالياً كيبلان بحريان اثنان فقط يربطان الكويت بالعالم، وجارٍ تنفيذ اثنين آخرين، إضافة إلى كوابل برية تربط الكويت بدول الجوار. جميع الكوابل البحرية والبرية الواصلة للكويت مملوكة لشركات خاصة.
لو افترضنا، وفرض المحال ليس بمحال، كما يُقال، قررت هذه الشركات المالكة لهذه الكوابل وقف تشغيلها، لانعدام الجدوى الاقتصادية، أو لظروف جيوسياسية، أو لأي سبب كان، ستخرج الكويت عن منظومة الاتصالات العالمية، ولك أن تتخيَّل العواقب، لا سمح الله.
إذاً، الكوابل البحرية هي شرايين الحياة الاقتصادية والاجتماعية للكويت، شأنها شأن دول العالم المتحضِّر، لذا أنبِّه حكومة الكويت بالالتفات إلى أهمية الأمر، وإدراج هذه المشاريع الاستراتيجية ضمن خطتها القائمة على تملك كوابل بحرية وبرية تربط الكويت بالعالم، ربما تُدار من شركات خاصة، لكن بملكية حكومية مُطلقة.