مرسي جميل عزيز... شاعر الأغنية الحديثة (2 - 3)
• موسيقار الكلمة يتحمّس لموهبة «الثلاثي المرح»
ظهرت موهبة مرسي جميل عزيز الشعرية في وقت مبكر، وكتب أول قصيدة في رثاء أستاذه، وعمره 12 عاماً، وقطع دراسته في كلية الحقوق، وعمل مع والده في تجارة الفاكهة، وأصبح أصغر شاعر غنائي يدخل الإذاعة المصرية، وبدأ مسيرته الاحترافية بأغنية «الفراشة» من ألحان رياض السنباطي، وانطلقت شهرته في الساحة الغنائية، ووجدت أشعاره طريقها إلى كبار المطربين والملحنين، وتوالت الرحلة... بدت تجربة مرسي جميل عزيز أكثر انفتاحاً وتنوعاً من شعراء آخرين، وفي وقت شهد الكثير من التكتلات الفنية المستقرة، منها ثنائية الموسيقار محمد عبدالوهاب، والشاعر حسين السيد، وخماسية أم كلثوم، ومحمد القصبحي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد، والشاعر أحمد رامي، ووقتها كان من الصعب اختراق هذا الحصار لأي شاعر أو ملحن مهما كان حجم موهبته. وظلت تجربة الملحن محمود الشريف صاحب الموهبة المتفردة، ماثلة أمام مرسي عزيز، وإقصائه بعيدا عن التلحين لأم كلثوم، وأصبحت تخايله لافتة «ممنوع الاقتراب» خصوصا أن رياض السنباطي أول من لحن له، تباعدت بينهما السبل للتعاون الفني بعد أغنيتين فقط، ولذا انطلق إلى فناني جيله، وحقق شهرته كشاعر غنائي متفرد، قبل أن تشدو كوكب الشرق بأشعاره.
ضم ديوان عزيز عددًا من الأغانى النادرة والمنسيّة، كتبها لعدد من المطربين والمطربات، منها أغنية «قلبي دق دق» للمطربة فايده كامل، وتحمس لموهبة الثلاثي المرح «ثناء وصفاء ووفاء» وكتب لهن أغنيتين في عام 1958، «يا أسمر يا سكر»، و«ملو البدرية»، ألحان الموسيقار علي إسماعيل، وغنت له المطربة سعاد مكاوي «رمشه ندهلي» للملحن كمال الطويل.
رأي النقاد في أغاني عزيز كما نُشِر على جريدة «أخبار اليوم»
الفوازير والموال
وهناك عدد آخر من الأغاني النادرة لعزيز، بصوت عبدالحليم حافظ، منها الأغنية «الفوازير» ألحان محمد الموجي وتوزيع علي إسماعيل، وغناها العندليب عام 1963، ويقول مطلعها: «الفجر طلع وطلعنا معاه، وعرفنا طريقنا بعون الله، ومشينا مشينا كثير وطريق الثورة كبير، أهداف تسبق أمجاد وأيام كلها أعياد، وحقيقة ولا الأساطير وحكاية ولا الفوازير».
محمد رشدي
وفي ذلك الوقت حقّق محمد رشدي نجاحا مدويا من خلال الأوبريت الإذاعي «أدهم الشرقاوي»، وأراد عبدالحليم حافظ منافسة المطرب الشعبي، وغنى «موال أدهم الشرقاوي» من أشعار مرسي جميل عزيز، وكتبه بأسلوب السيناريو السينمائي، ولحّنه محمد الموجي.
وفي هذا الموال صوّر عزيز ملحمة من أروع ملاحم الكفاح الوطني في حياة شعب مصر، ويقول مطلعها: «منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه، كلام قالوه ناس، وياما بكرة ناس يقولوه، القول على سبع، لكن سبع شرقاوي الاسم أدهم، لكن النقب شرقاوي، حكايته يادي العجب، فيها العقول بتوه».
ومن الأغاني الوطنية النادرة لعزيز وحليم، أغنية «الفجر بدا» لحن محمود الشريف، وشاركته في الغناء المطربة نادية فهمي، وسجلت للإذاعة المصرية يوم 24 أكتوبر 1954، وتعد أول أغنية «دويتو» لعبدالحليم حافظ قبل «حاجة غريبة» مع المطربة شادية.
وحشونا الحبايب
والتقى عزيز بصوت وألحان المطرب محمد فوزي في عدد قليل من الأغاني، منها أغنية «وحشونا الحبايب» والأغنية الوطنية النادرة «بلدي أحببتك يابلدي» وغناها فوزي في حفل أعياد الثورة خلال شهر يوليو 1963، ويقول مطلعها: «بلدي أحببتك يا بلدي، حبًا في الله وللأبد، فثراك الحر تراب أبي، وسماك يزف صبا ولدي، بلدي أحببتك يا بلدي، وطني والله رعى وطني، حرًا في الأهل وفي السكن، ماضٍ يختال على الزمن، وغد يزدان لبعد غد، بلدي أحببتك يا بلدي».
أسطوانة أغنية «سيرة الحب»
قطر الندى
ودخل مرسي عزيز مجال الأوبريت الإذاعي، وكتب «قطر الندى» ويُعد من كنوز الإذاعة المصرية في أربعينيات القرن الماضي، وصاغ الألحان الموسيقار أحمد صدقي، وأخرجه الإذاعي الرائد عبدالوهاب يوسف، وشارك في الغناء المطرب كارم محمود والمطربات شافية أحمد، ونوال محمد، وفاطمة علي، والأداء الصوتي لمجموعة من رواد الإعلام الإذاعي، صفية المهندس وعبدالوهاب يوسف وحافظ عبدالوهاب، وتمثيل الفنانة جمالات زايد ورفيعة الشال وعلي الزرقاني ومحمد الطوخي وحسين فياض ومحمد علي خيري.
ولحن الموسيقار أحمد صدقي عشرات الأغاني لمرسي جميل عزيز، منها «عشان بدك ترضيني»، و«يصعب على روحي»، بصوت المطرب الشعبي محمد عبدالمطلب، و»املا الكاسات يا حامل الأقداح» غناء المطرب كارم محمود.
زمان يا حب
وكتب مرسي جميل عزيز العديد من أغاني أفلام الموسيقار فريد الأطرش، منها «مانحرمش العمر منك»، و«قلبي وعيني اختاروا»، و«اسمع لما أقولك»، و«أنا وانتَ وبس»، و«يا حبايبي يا غايبين»، وكان آخر لقاء بينهما في أغنية «زمان يا حب» عام 1973، قبل رحيل موسيقار النغم الأصيل بعام واحد فقط.
بليغ حمدي يكشف شروط عزيز في «سيرة الحب»
شهدت أغنية «سيرة الحب» أول لقاء بين أم كلثوم وأشعار مرسي جميل عزيز، وتعد من أهم الأغنيات العاطفية التي تغنت بها سيدة الغناء العربي، ووضع ألحانها الموسيقار بليغ حمدي، وشدت بها كوكب الشرق في عام 1964، وحققت نجاحا مدويا.
وفي البداية تخوّف عزيز من العمل مع أم كلثوم، لكنه وافق بعد عدة جلسات معها، وأعطاها ثلاث مطالع لثلاثية «سيرة الحب، وفات الميعاد، وألف ليلة وليلة»، وتم الاستقرار على «سيرة الحب»، وكان من المقرر أن يلحنها محمد الموجي وبعد حدوث خلاف في وجهات النظر، لحنها بليغ حمدي.
وذكر مرسي جميل عزيز، في أحد لقاءاته الصحافية، إنه كان يرغب في تأليف أغنية لأم كلثوم، بعد أن ذاع صيته، وأصبح شاعرا مشهورًا، ونجحت أغانيه مع بعض المطربين الشباب، آنذاك، مثل صباح وشادية وعبدالحليم حافظ. وبعد خلافها مع صديقه الملحن أحمد صدقي. أرسلت أم كلثوم لعزيز، بهدف الاتفاق معه على كتابة أغنية لها، خصوصًا بعد ترشيح الملحن محمد الموجي له، إلا أنه تهرّب منها أكثر من مرة، خوفًا من خسارة ما كسبه من اسم ومكانة مع المطربين الشباب. واعتقد مرسي أنه إذا استمر في تقديم أغاني للمطربين الشباب، أفضل من أن يتعلّق اسمه بالكبار مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.
ولكن كوكب الشرق أرسلت في طلبه مرة أخرى، ووافق مرسي وعرض عليها ثلاث أغنيات. وفاجأت أم كلثوم، مرسي عزيز بالموافقة على الأغنيات الثلاث، وطلبت منه اختيار أول عمل، ليقدمانه معًا. واختار الشاعر مرسي «سيرة الحب» لتكون أول تعاون بينهما، وقدمت «السِت» الأغنية في حفل 3 ديسمبر عام 1964، وصعدت على المسرح لتشدو «طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب وظلم الحب لكل أصحابه».
وكشف الملحن بليغ حمدي، في حوار أجري معه في أواخر السبعينيات من القرن الماضي كواليس اشتراط مرسي جميل عزيز على أم كلثوم عدم التدخل في كلمات أغنية «سيرة الحب»، الذي كتبها لها، وفرض عليها أيضًا عدم تدخل الملحن فيها، وكان معروفًا عن أم كلثوم أنها تقوم بالتعديل على بعض كلمات الأغاني التي تغنيها لتتناسب مع طبقات صوتها القوي أو تجنبًا لبعض الكلمات التي تحتوي على حرف «الشين» حيث كان يخرج منها في الميكروفون بطريقة غير مريحة لها.
وأضاف: «لو كان في كلام الأغنية أي حاجة لم تعجبني، لكنت قد طلبت من مرسي جميل عزيز أن يغيرها، إنما كلها كانت أعمال متكاملة ولم تكن في حاجة إلى أي تغيير لأن مرسي جميل عزيز شاعر عظيم، وقد لحنت له بعد ذلك لأم كلثوم أيضًا (فات الميعاد)، و(ألف ليلة وليلة)».
وبعد تلك السنوات، لا يزال الجمهور من عشاق صوت أم كلثوم، يردد مقاطع من «سيرة الحب» منها: «ياللى ظلمتوا الحب وقلتوا وعدتوا عليه قلتوا عليه مش عارف إيه... العيب فيكم يا في حبايبكم أما الحب يا روحي عليه». وأيضا مقاطع: «وقابلتك انت لقيتك بتغيَّر كل حياتي... ما أعرفش إزاي أنا حبيتك ما أعرفش إزاي يا حياتي»، و«ياما عيون شاغلوني لكن ولا شغلوني.. إلا عيونك إنتَ دول بس اللي خدوني وبحبك أمروني.. أمروني أحب لقيتني باحب وأدوب في الحب وصُبح وليل على بابه».
تمتع الشاعر مرسي جميل عزيز بثقافة واسعة، بدأت في مرحلة مبكرة من حياته، ولعب والده دورا كبيرا في تنشئته على حب العلم والمعرفة، وحرص على تحفيظه القرآن الكريم كاملا في صغره، وفي صباه حفظ الكثير من الدواوين، ما جعل لديه تنوع كبير في مفرداته الغنائية وأفكاره، وكانت نداءات بائعي الفاكهة بأنواعها مصدر إلهام لكتاباته حتى اشتهر بلقب «فكهاني الكلمة»، وكان قدوته في الكتابة شاعر العامية بيرم التونسي.
وألمح البعض بقصد التقليل من مكانته الشعرية، أنه كان يعمل فكهانيا فقد كان والده من كبار تجار الفاكهة بمدينة الزقازيق وأصر أن يعمل ابنه معه في التجارة، فترك الدراسة بكلية الحقوق وظل يكتب الشعر بجانب عمله بالتجارة، واشترط أن يستقل عن والده في منطقة أخرى، فعمل تاجراً للفاكهة بالجملة في مدينة المنصورة امتدادا لتجارة والده الواسعة.
ولم ينكر الشاعر المتفرد مرسي جميل عزيز فضل الفاكهة عليه، وتأثره بنداءات بائعي الفاكهة على بضاعتهم، وروى أنه كان يحفظ الكثير من تلك النداءات، وألهمته بكتابة الأغاني ذات الطابع الشعبي، وعلى سبيل المثال، كان بائع الثوم ينادي على بضاعته، ويقول: «ثوم الخزين يا ثوم»، ومنها ألَّف أغنيته الشهيرة «توب الفرح يا توب مغزول من الفرحة، فاضل يومين يا توب وألبسلك الطرحة» لتغنيها المطربة أحلام وتكون سبباً في شهرتها.
وجاء مقال جليل البنداري الأول تحت عنوان «من هو قرصان الأغاني الذي سرق أجمل كلمات الموسم؟»، واتهم مرسي جميل عزيز صراحة بأنه استولى على مطلع أغنية من تأليف أحمد شفيق كامل، لكن مرسي جميل عزيز رد في العدد التالي للأخبار، بمقال تحت عنوان «أغاني الشعراء وأغاني صبيان العوالم».
واشتعلت الأزمة بمقال نشره مأمون الشناوي بعنوان «مرسي جميل عزيز إشاعة كاذبة في جو الأغنية... منطق البطيخ ومنطق الأدب والفن»، وقال الشناوي في هذا المقال إن تجارة البطيخ التي زاولها مرسي جميل عزيز عمل شريف لا يحط من قدره، ولكن لا ينبغي أن نستخدم منطق البطيخ في النقد الأدبي أو النقاش الفني وإلا أصبح المجال الأدبي شادراً يختلط فيه السليم بالمكسور والطيب بالأقرع».
وبلغ عدد الأغاني المزعوم عن مرسي جميل عزيز سرقتها، 12 أغنية، لكنه لم يهتم بضراوة الحملة ضده، وتعامل بأخلاقيات الفارس الشجاع الذي لا يهرب من المعركة، وأدار الأزمة بذكاء شديد، ليحسم الجدل، ويقطع الطريق أمام سلسلة الاتهامات الموجهة إليه، ووقتها كان في قمة شهرته ونجاحه الفني. وفي حركة مباغته لأطراف النزاع، أرسل عزيز إلى جريدة «أخبار اليوم» شيكًا بمبلغ 500 جنيه، وهو مبلغ ضخم جدا بمعيار تلك الفترة، وطلب من الجريدة اعتباره غطاء ماديًا لتكلفة عقد محاكمة علنية له، وهذا ما فعلته الصحيفة فكوّنت هيئة للمحاكمة اشتملت على كبار نقاد وشعراء ذلك الزمن، فتكونت المحكمة من الدكتور علي الراعي والدكتور عبدالقادر القط والدكتور محمد مندور والدكتور لويس عوض والشاعر صلاح عبدالصبور.
وتداولت المحكمة الاتهامات التي وجهها البنداري لمرسي جميل عزيز وحكمت بأن الرأي العام للنقاد يميل إلى تبرئة الشاعر الكبير تمامًا من تهمة السرقة في عشر أغنيات، وهناك رأي آخر يتهمه بالاقتباس في أغنيتين هما «أبو رمش بيجرح» و«يامه القمر ع الباب»، إلا أن جميع النقاد المشاركين في المحكمة الفنية أجمعوا على أن موهبة مرسي جميل لا شك فيها، وأنه أحد فرسان الشعر الغنائي الحديث.
وانتهت هذه المعركة الشرسة التي وضعت لها «أخبار اليوم» عنوان «مذبحة بين مؤلفي الأغاني»، واللافت أنها أسفرت عن براءة الشاعر مرسي جميل عزيز، وتلاشت الأزمة، وساد الود والاحترام بين أطرافها، وظلت المنافسة الشريفة تحكم فرسان الشعر والكلمة، وتابعوا مسيرتهم الإبداعية، وإثراء الساحة الغنائية والأدبية، دون تجريح أو إساءة كما يحدث مع بعض الفنانين من الجيل الحالي.
رأي النقاد في أغاني عزيز كما نُشِر على جريدة «أخبار اليوم»
الفوازير والموال
وهناك عدد آخر من الأغاني النادرة لعزيز، بصوت عبدالحليم حافظ، منها الأغنية «الفوازير» ألحان محمد الموجي وتوزيع علي إسماعيل، وغناها العندليب عام 1963، ويقول مطلعها: «الفجر طلع وطلعنا معاه، وعرفنا طريقنا بعون الله، ومشينا مشينا كثير وطريق الثورة كبير، أهداف تسبق أمجاد وأيام كلها أعياد، وحقيقة ولا الأساطير وحكاية ولا الفوازير».
كوكب الشرق أرسلت تطلب الشاعر الموهوب فعرض عليها 3 أغنيات وفاجأته بالموافقة عليها
محمد رشدي
وفي ذلك الوقت حقّق محمد رشدي نجاحا مدويا من خلال الأوبريت الإذاعي «أدهم الشرقاوي»، وأراد عبدالحليم حافظ منافسة المطرب الشعبي، وغنى «موال أدهم الشرقاوي» من أشعار مرسي جميل عزيز، وكتبه بأسلوب السيناريو السينمائي، ولحّنه محمد الموجي.
وفي هذا الموال صوّر عزيز ملحمة من أروع ملاحم الكفاح الوطني في حياة شعب مصر، ويقول مطلعها: «منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه، كلام قالوه ناس، وياما بكرة ناس يقولوه، القول على سبع، لكن سبع شرقاوي الاسم أدهم، لكن النقب شرقاوي، حكايته يادي العجب، فيها العقول بتوه».
ومن الأغاني الوطنية النادرة لعزيز وحليم، أغنية «الفجر بدا» لحن محمود الشريف، وشاركته في الغناء المطربة نادية فهمي، وسجلت للإذاعة المصرية يوم 24 أكتوبر 1954، وتعد أول أغنية «دويتو» لعبدالحليم حافظ قبل «حاجة غريبة» مع المطربة شادية.
وحشونا الحبايب
والتقى عزيز بصوت وألحان المطرب محمد فوزي في عدد قليل من الأغاني، منها أغنية «وحشونا الحبايب» والأغنية الوطنية النادرة «بلدي أحببتك يابلدي» وغناها فوزي في حفل أعياد الثورة خلال شهر يوليو 1963، ويقول مطلعها: «بلدي أحببتك يا بلدي، حبًا في الله وللأبد، فثراك الحر تراب أبي، وسماك يزف صبا ولدي، بلدي أحببتك يا بلدي، وطني والله رعى وطني، حرًا في الأهل وفي السكن، ماضٍ يختال على الزمن، وغد يزدان لبعد غد، بلدي أحببتك يا بلدي».
أسطوانة أغنية «سيرة الحب»
قطر الندى
ودخل مرسي عزيز مجال الأوبريت الإذاعي، وكتب «قطر الندى» ويُعد من كنوز الإذاعة المصرية في أربعينيات القرن الماضي، وصاغ الألحان الموسيقار أحمد صدقي، وأخرجه الإذاعي الرائد عبدالوهاب يوسف، وشارك في الغناء المطرب كارم محمود والمطربات شافية أحمد، ونوال محمد، وفاطمة علي، والأداء الصوتي لمجموعة من رواد الإعلام الإذاعي، صفية المهندس وعبدالوهاب يوسف وحافظ عبدالوهاب، وتمثيل الفنانة جمالات زايد ورفيعة الشال وعلي الزرقاني ومحمد الطوخي وحسين فياض ومحمد علي خيري.
ولحن الموسيقار أحمد صدقي عشرات الأغاني لمرسي جميل عزيز، منها «عشان بدك ترضيني»، و«يصعب على روحي»، بصوت المطرب الشعبي محمد عبدالمطلب، و»املا الكاسات يا حامل الأقداح» غناء المطرب كارم محمود.
«موال أدهم الشرقاوي» يشعل المنافسة بين العندليب ومحمد رشدي
زمان يا حب
وكتب مرسي جميل عزيز العديد من أغاني أفلام الموسيقار فريد الأطرش، منها «مانحرمش العمر منك»، و«قلبي وعيني اختاروا»، و«اسمع لما أقولك»، و«أنا وانتَ وبس»، و«يا حبايبي يا غايبين»، وكان آخر لقاء بينهما في أغنية «زمان يا حب» عام 1973، قبل رحيل موسيقار النغم الأصيل بعام واحد فقط.
بليغ حمدي يكشف شروط عزيز في «سيرة الحب»
شهدت أغنية «سيرة الحب» أول لقاء بين أم كلثوم وأشعار مرسي جميل عزيز، وتعد من أهم الأغنيات العاطفية التي تغنت بها سيدة الغناء العربي، ووضع ألحانها الموسيقار بليغ حمدي، وشدت بها كوكب الشرق في عام 1964، وحققت نجاحا مدويا.
وفي البداية تخوّف عزيز من العمل مع أم كلثوم، لكنه وافق بعد عدة جلسات معها، وأعطاها ثلاث مطالع لثلاثية «سيرة الحب، وفات الميعاد، وألف ليلة وليلة»، وتم الاستقرار على «سيرة الحب»، وكان من المقرر أن يلحنها محمد الموجي وبعد حدوث خلاف في وجهات النظر، لحنها بليغ حمدي.
وذكر مرسي جميل عزيز، في أحد لقاءاته الصحافية، إنه كان يرغب في تأليف أغنية لأم كلثوم، بعد أن ذاع صيته، وأصبح شاعرا مشهورًا، ونجحت أغانيه مع بعض المطربين الشباب، آنذاك، مثل صباح وشادية وعبدالحليم حافظ. وبعد خلافها مع صديقه الملحن أحمد صدقي. أرسلت أم كلثوم لعزيز، بهدف الاتفاق معه على كتابة أغنية لها، خصوصًا بعد ترشيح الملحن محمد الموجي له، إلا أنه تهرّب منها أكثر من مرة، خوفًا من خسارة ما كسبه من اسم ومكانة مع المطربين الشباب. واعتقد مرسي أنه إذا استمر في تقديم أغاني للمطربين الشباب، أفضل من أن يتعلّق اسمه بالكبار مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.
ولكن كوكب الشرق أرسلت في طلبه مرة أخرى، ووافق مرسي وعرض عليها ثلاث أغنيات. وفاجأت أم كلثوم، مرسي عزيز بالموافقة على الأغنيات الثلاث، وطلبت منه اختيار أول عمل، ليقدمانه معًا. واختار الشاعر مرسي «سيرة الحب» لتكون أول تعاون بينهما، وقدمت «السِت» الأغنية في حفل 3 ديسمبر عام 1964، وصعدت على المسرح لتشدو «طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب وظلم الحب لكل أصحابه».
وكشف الملحن بليغ حمدي، في حوار أجري معه في أواخر السبعينيات من القرن الماضي كواليس اشتراط مرسي جميل عزيز على أم كلثوم عدم التدخل في كلمات أغنية «سيرة الحب»، الذي كتبها لها، وفرض عليها أيضًا عدم تدخل الملحن فيها، وكان معروفًا عن أم كلثوم أنها تقوم بالتعديل على بعض كلمات الأغاني التي تغنيها لتتناسب مع طبقات صوتها القوي أو تجنبًا لبعض الكلمات التي تحتوي على حرف «الشين» حيث كان يخرج منها في الميكروفون بطريقة غير مريحة لها.
وقال بليغ حمدي: «إذا كان مرسي جميل عزيز طلب هذا من أم كلثوم فمن المحتمل أن يكون هذا الكلام قد حدث بينه وبين كوكب الشرق شخصيًا، وقد أعطتني أم كلثوم كلام أغنية (سيرة الحب)، ولحنته دون أن أعرف أنه من تأليف مرسي جميل عزيز».«زمان يا حب» تشهد لقاءه الأخير مع ألحان الموسيقار فريد الأطرش
وأضاف: «لو كان في كلام الأغنية أي حاجة لم تعجبني، لكنت قد طلبت من مرسي جميل عزيز أن يغيرها، إنما كلها كانت أعمال متكاملة ولم تكن في حاجة إلى أي تغيير لأن مرسي جميل عزيز شاعر عظيم، وقد لحنت له بعد ذلك لأم كلثوم أيضًا (فات الميعاد)، و(ألف ليلة وليلة)».
وبعد تلك السنوات، لا يزال الجمهور من عشاق صوت أم كلثوم، يردد مقاطع من «سيرة الحب» منها: «ياللى ظلمتوا الحب وقلتوا وعدتوا عليه قلتوا عليه مش عارف إيه... العيب فيكم يا في حبايبكم أما الحب يا روحي عليه». وأيضا مقاطع: «وقابلتك انت لقيتك بتغيَّر كل حياتي... ما أعرفش إزاي أنا حبيتك ما أعرفش إزاي يا حياتي»، و«ياما عيون شاغلوني لكن ولا شغلوني.. إلا عيونك إنتَ دول بس اللي خدوني وبحبك أمروني.. أمروني أحب لقيتني باحب وأدوب في الحب وصُبح وليل على بابه».
«فكهاني الكلمة» يعترف بفضل نداءات الباعة
تمتع الشاعر مرسي جميل عزيز بثقافة واسعة، بدأت في مرحلة مبكرة من حياته، ولعب والده دورا كبيرا في تنشئته على حب العلم والمعرفة، وحرص على تحفيظه القرآن الكريم كاملا في صغره، وفي صباه حفظ الكثير من الدواوين، ما جعل لديه تنوع كبير في مفرداته الغنائية وأفكاره، وكانت نداءات بائعي الفاكهة بأنواعها مصدر إلهام لكتاباته حتى اشتهر بلقب «فكهاني الكلمة»، وكان قدوته في الكتابة شاعر العامية بيرم التونسي.
وألمح البعض بقصد التقليل من مكانته الشعرية، أنه كان يعمل فكهانيا فقد كان والده من كبار تجار الفاكهة بمدينة الزقازيق وأصر أن يعمل ابنه معه في التجارة، فترك الدراسة بكلية الحقوق وظل يكتب الشعر بجانب عمله بالتجارة، واشترط أن يستقل عن والده في منطقة أخرى، فعمل تاجراً للفاكهة بالجملة في مدينة المنصورة امتدادا لتجارة والده الواسعة.
ولم ينكر الشاعر المتفرد مرسي جميل عزيز فضل الفاكهة عليه، وتأثره بنداءات بائعي الفاكهة على بضاعتهم، وروى أنه كان يحفظ الكثير من تلك النداءات، وألهمته بكتابة الأغاني ذات الطابع الشعبي، وعلى سبيل المثال، كان بائع الثوم ينادي على بضاعته، ويقول: «ثوم الخزين يا ثوم»، ومنها ألَّف أغنيته الشهيرة «توب الفرح يا توب مغزول من الفرحة، فاضل يومين يا توب وألبسلك الطرحة» لتغنيها المطربة أحلام وتكون سبباً في شهرتها.
محاكمة علنية بتهمة السرقة!
حقق الشاعر مرسي جميل عزيز خلال مسيرته الفنية، سلسلة من النجاحات الهائلة، لكنه تعرّض لأزمة عنيفة في عام 1961، بدأت بحملة صحافية ضارية ضده على صفحات جريدة «أخبار اليوم»، شارك فيها كل من الصحافي جليل البنداري، والشاعرين مأمون الشناوي، وأحمد شفيق كامل، وطالت موسيقار الكلمات اتهامات بالسرقة الأدبية!وجاء مقال جليل البنداري الأول تحت عنوان «من هو قرصان الأغاني الذي سرق أجمل كلمات الموسم؟»، واتهم مرسي جميل عزيز صراحة بأنه استولى على مطلع أغنية من تأليف أحمد شفيق كامل، لكن مرسي جميل عزيز رد في العدد التالي للأخبار، بمقال تحت عنوان «أغاني الشعراء وأغاني صبيان العوالم».
واشتعلت الأزمة بمقال نشره مأمون الشناوي بعنوان «مرسي جميل عزيز إشاعة كاذبة في جو الأغنية... منطق البطيخ ومنطق الأدب والفن»، وقال الشناوي في هذا المقال إن تجارة البطيخ التي زاولها مرسي جميل عزيز عمل شريف لا يحط من قدره، ولكن لا ينبغي أن نستخدم منطق البطيخ في النقد الأدبي أو النقاش الفني وإلا أصبح المجال الأدبي شادراً يختلط فيه السليم بالمكسور والطيب بالأقرع».
وبلغ عدد الأغاني المزعوم عن مرسي جميل عزيز سرقتها، 12 أغنية، لكنه لم يهتم بضراوة الحملة ضده، وتعامل بأخلاقيات الفارس الشجاع الذي لا يهرب من المعركة، وأدار الأزمة بذكاء شديد، ليحسم الجدل، ويقطع الطريق أمام سلسلة الاتهامات الموجهة إليه، ووقتها كان في قمة شهرته ونجاحه الفني. وفي حركة مباغته لأطراف النزاع، أرسل عزيز إلى جريدة «أخبار اليوم» شيكًا بمبلغ 500 جنيه، وهو مبلغ ضخم جدا بمعيار تلك الفترة، وطلب من الجريدة اعتباره غطاء ماديًا لتكلفة عقد محاكمة علنية له، وهذا ما فعلته الصحيفة فكوّنت هيئة للمحاكمة اشتملت على كبار نقاد وشعراء ذلك الزمن، فتكونت المحكمة من الدكتور علي الراعي والدكتور عبدالقادر القط والدكتور محمد مندور والدكتور لويس عوض والشاعر صلاح عبدالصبور.
وتداولت المحكمة الاتهامات التي وجهها البنداري لمرسي جميل عزيز وحكمت بأن الرأي العام للنقاد يميل إلى تبرئة الشاعر الكبير تمامًا من تهمة السرقة في عشر أغنيات، وهناك رأي آخر يتهمه بالاقتباس في أغنيتين هما «أبو رمش بيجرح» و«يامه القمر ع الباب»، إلا أن جميع النقاد المشاركين في المحكمة الفنية أجمعوا على أن موهبة مرسي جميل لا شك فيها، وأنه أحد فرسان الشعر الغنائي الحديث.
وانتهت هذه المعركة الشرسة التي وضعت لها «أخبار اليوم» عنوان «مذبحة بين مؤلفي الأغاني»، واللافت أنها أسفرت عن براءة الشاعر مرسي جميل عزيز، وتلاشت الأزمة، وساد الود والاحترام بين أطرافها، وظلت المنافسة الشريفة تحكم فرسان الشعر والكلمة، وتابعوا مسيرتهم الإبداعية، وإثراء الساحة الغنائية والأدبية، دون تجريح أو إساءة كما يحدث مع بعض الفنانين من الجيل الحالي.