هل نستجير من الرمضاء بالنار؟
لا خلاف على أن الدَّين العام أداة أساس من أدوات السياسة المالية متى ما وُظِّفت حصيلته لدعم أداء اقتصاد البلد، ما يعني أن صلبها يُصرف من أجل تحقيق أهداف بائنة لدعم نمو الاقتصاد وبما يخلق فرص عمل مواطنة مستدامة. وحجم الديون العامة السيادية في العالم يبلغ نحو 103.5 تريليونات دولار أميركي أو نحو 94% من حجم الاقتصاد العالمي، ويبلغ لأكبر اقتصادات العالم 213.6% لليابان و121.6% للولايات المتحدة الأميركية، و83.5% للصين من حجم ناتجهم المحلي الإجمالي، وكلها أعلى من المستوى المستهدف للمرسوم بقانون رقم (60) لسنة 2025 الصادر أمس الأول عن الحكومة الكويتية البالغ حده الأقصى 30 مليار دينار كويتي، وبحد أقصى لا يتعدى 60% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي.
الخلاف يتمحور حول المصارف المحتملة لتلك الأموال، فالمستهدفات الستة التي ذكرتها الحكومة في تسويقها لمرسوم قانون الدين العام رقم (60) لسنة 2025، منفصلة عن واقع الحال، ولا بأس من استعراض سريع لها حتى لا نستبدل رمضاء تجربة الكويت مع الدين العام لعام 2017، بنار المرسوم الجديد.
أهم المستهدفات كان تحفيز أداء الاقتصاد الكويتي، وأداء الاقتصاد الكويتي منذ عام 2017 كان الأضعف في محيطه الجغرافي، فقد انخفضت مساهمته في إجمالي الناتج المحلي لدول مجلس التعاون الخليجي من 8% في ذلك العام إلى نحو 7.4% في عام 2024، وبلغ متوسط نموه السنوي نحو 0.3- لتلك الفترة رغم الدعم الاستثنائي الذي تلقاه قطاع النفط من تأثير الحرب الروسية الأوكرانية.
المستهدف الثاني كان إتاحة خيارات مالية للدولة، وهو صحيح في اقتصاد منتج وممول ضريبياً، ولكنه خيار ضار للكويت لأنه يتيح سيولة في بلد 91% من نفقاته العامة جارية، وكفاءة نفقاته وفق آخر تقرير لـ «الأسكوا» بحدود 0.54 مقابل 0.74 للمعدل العالمي، بينما حجمها يبلغ 50% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل معدل عالمي بحدود 37%، أي أن العالم يصرف أقل ويحقق نفعاً أعلى.
المستهدف الثالث هو تمويل المشاريع التنموية الكبرى، وفي الكويت لا يوجد تعريف للمشروع التنموي، فالمشروعات الإنشائية مثل الطرق والجسور والمباني الحكومية، وبعضها متوقف منذ زمن طويل، ومطار الكويت الدولي الجديد وميناء مبارك، ما لم تُترجم إلى فرص عمل مواطنة مستدامة وإنتاج سلعي وخدمي منافس، ليست سوى «فيلة بيضاء» عندما تتحول إدارتها وصيانتها إلى عامل ضغط لمزيد من النفقات العامة ومزيد من الحاجة إلى الاقتراض.
مستهدفها الرابع هو تعزيز التصنيف الائتماني السيادي للدولة، وذلك قد يحدث في الزمن القصير، فالأصل في تقارير وكالات التصنيف هو قدرة الدولة على مواجهة التزاماتها المالية للغير، أي الأجانب، على المدى المتوسط ولكن مصارف حصيلة الدين العام مع ضعف الكفاءة، الذي أشرنا إليه، سوف يؤدي إلى تدهور التصنيف حال ولوج مصيدة أو فخ تلك الديون، وأسواق المال في العالم لم تتوقف حتى وقت قريب عن إقراض لبنان وسيريلانكا وبعض دول أميركا اللاتينية، ولا عن إقراض اليونان والبرتغال وأيرلندا التي سقطت في فخ القروض في بداية العقد الثاني من القرن الحالي لولا تدخل منظومة اليورو لإنقاذهم وبشروط قاسية.
وخامس المستهدفات الحفاظ على سيولة الاحتياطيات، وذلك كان هدف قانون الدين العام لعام 2017، وانتهى بنا المطاف، ليس فقط باستهلاك كل سيولة الاحتياطي العام، وإنما وقف تحويل الـ 10% من جملة الإيرادات العامة لاحتياطي الأجيال القادمة، وبيع أصول غير سائلة له مقابل سحب غير قانوني وغير حصيف مالياً من سيولته.
وسادس المستهدفات هو تطوير أسواق المال المحلية، وأسواق المال المحلية تتطور عندما تكون بيئة الاقتصاد الكلي مستدامة وصحية وسليمة، وقد يؤدي الاقتراض إلى إتاحة فرص عمل لها على المدى القصير، ولكن ارتدادها السلبي يصبح أقسى وأعمق إن تضررت بيئة الاقتصاد العام الحاضن لها.
وحتى نوجز ما تقدم، ونضع مفهوم الدين العام في سياقه الصحيح، فإن أمراض الاقتصاد الكويتي أربعة، مرتبط بعضها ببعض، وما لم توجه حصيلة الدين العام لعلاجها وفق مستهدفات موسومة بتطور الأرقام ومحدد زمن تحققها، لا يمكن للدين العام إلا أن يتحول إلى فخ أو مصيدة، قد نختلف على توقيت الوقوع فيها، وليس حتميتها.
وأمراض الاقتصاد الأربعة هي قطاع عام ضعيف الإنتاجية عالي التكلفة وغير مستدام ويولد نحو 60% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وتلك حالة استثنائية في عالمنا المعاصر، وموازنة عامة حققت عجزاً صافياً ما بين عامي 2014 و2024 بحدود 34.9 مليار دينار كويتي، وميزان عمالة مواطنة توظف فيه الحكومة نحو 86% منهم، وأكثر من نصفهم بطالة مقنّعة، ونحو 25 ألف قادم إلى سوق العمل كل عام بلا فرصة عمل، وتركيبة سكانية 69% منها وافدة، والمشكلة ليست في الكم فقط ولكن في النوعية.
وهيكل النفقات العامة كما عكسته الموازنة العامة للسنة المالية 2025/2026، لا يوحي بتغيير يذكر عن مسار الأداء التاريخي للاقتصاد وماليته العامة، ومعه يمكن الجزم بأن حصيلة الدين العام هي في اتجاه تعميق الأمراض الأربعة المذكورة، أي أننا أقرب كثيراً إلى حصاد ناره.