بيرم التونسي... فيلسوف الشعر الغنائي (الأخيرة)

• ثورة يوليو ترد اعتبار «شاعر المنافي» وتمنحه الجنسية المصرية

نشر في 27-03-2025
آخر تحديث 26-03-2025 | 16:05
تحوّلت حياة الشاعر بيرم التونسي إلى سلسلة من الصدمات المتلاحقة، وفشلت محاولاته في الاستقرار الأسري، وعمل في مهن مختلفة، وتعرض للإفلاس، وأصبح الشعر ملاذه الوحيد، وبلغت الأزمات ذروتها بنفيه إلى موطن أجداده في تونس، وبعد شهور قليلة غادرها إلى فرنسا، وهناك عانى قسوة الاغتراب، وطارده شبح الجوع والبطالة... استقر الشاعر المنفي في مدينة ليون، وأوصدت أبواب العمل في وجهه، وبعد معاناة طويلة، عثر على عمل شاق لمدة تسع ساعات يومياً مقابل أجر زهيد، ورغم ذلك كان يعود من المناجم ويجلس إلى طاولة في مسكنه المتواضع، ويكتب قصائد زجلية، ليرسلها إلى جريدة «الشباب» في القاهرة، بعد أن اتفق مع صاحبها «علي عبدالعزيز الصدر» على مراسلته، وأن يسلّم لزوجته ثمن الأزجال، حتى تستطيع مع النقود القليلة التي يرسلها لها، أن توفر أجرة المسكن والطعام. أمضى بيرم أكثر من عام ونصف العام، دون أمل في العودة إلى الوطن، ووقتها كان الألم يعتصره في الغربة بعيداً عن زوجته وأبنائه، وفقد القدرة على مواصلة تلك الحياة القاسية، وغمره شعور جارف بالحنين إلى مصر، وبدأ في البحث عن طريقة تساعده للخروج من هذا الكابوس، فلجأ إلى اختصار اسمه في جواز السفر الجديد الذي كان يحمل ختم القنصلية البريطانية، واستطاع بهذا الجواز أن يدفع أجرة السفر، ويصعد إلى السفينة، وخلال الرحلة خايلته الذكريات بحلوها ومرها، وتعجل لحظة الوصول إلى وطنه الغالي.

نزل العائد من الغربة في ميناء بورسعيد، في يوم 27 مارس عام 1922، واتجه فوراً إلى الإسكندرية، ووصل إلى حي الأنفوشي، متخيلاً اللحظة التي سيلتقي فيها زوجته، ويأخذ بين يديه مولودهما الذي لم يتعرّف على ملامحه، وهناك تلقى صدمة جديدة، وأخبره أهل الحي أن زوجته وضعت طفلة وأنها طلبت الطلاق في فترة غيابه، وحصلت عليه بعد تأكدها أن زوجها مغضوب عليه، وليس هناك أي أمل في عودته للبلاد.

واجه العائد من المنفى مصيره المجهول، وسط أوضاع سياسية مضطربة، ووقتها كانت سلطات الاحتلال تقمع أي معارضة، ونُفِّيَ الزعيم سعد زغلول للمرة الثانية. وقرر بيرم ألا يغامر بالنزول إلى الشارع، وأن ينتظر لحظة هدوء مواتية، ويحاول في أثنائها أن يتصل ببعض القادرين على الاتصال بالقصر، ليتوسطوا في إصدار العفو عنه والسماح ببقائه في البلاد دون تهديد أو خوف.

وطال انتظاره في منزل أبناء عمه لمدة ثلاثة أشهر، قرر بعدها أن ينزل إلى الشارع، ويمارس حياته العادية، واكتشف أن أمره لا يهم أحداً، وأنه يستطيع السفر إلى القاهرة ليلتقي بصديقه علي عبدالعزيز الصدر صاحب جريدة «الشباب»، وببعض الأصدقاء المخلصين الذين يستطيع الاعتماد عليهم في حل مشكلته.

عزيز عيد يقنعه بتأليف «ليلة من ألف ليلة» في باريس

وبمرور الوقت فقد بيرم شعوره بالأمان، وكان في كل لحظة مهدداً بالإبعاد مرة أخرى، وأخفق في ممارسة حياته بشكل طبيعي، فلم يكن يستطيع نشر قصائده الزجلية ونقد السلبيات الاجتماعية ومناهضة الاحتلال، خوفاً من النفي بعيداً عن وطنه مرة أخرى.

وعثر بيرم على فكرة للخروج من هذا الحصار، واتفق مع صاحب جريدة «الشباب» على أن يرسل للجريدة كل أسبوع معظم مواد العدد، بشرط ألا يضع اسمه على الأزجال السياسية، واستمر في كتابة قصائده المفعمة بالأمل في تحرُّر بلاده من قبضة المستعمر، ووجد الفرصة المواتية للتعبير عمّا يجيش بصدره من غضب، إزاء الصدمات الشخصية التي تعرض لها، ومعاناة المجتمع المصري في تلك الفترة الحرجة.

ومكث الشاعر المحاط بالأزمات في مصر لمدة 14 شهراً، وتخفّف من حذره يوماً بعد آخر، وبات يتواجد في المقاهي، ويلتقي الأدباء والمثقفين، ويتجول في الشوارع بحرية، حتى اكتُشِف أمر دخوله إلى مصر متسللاً، وقُبِض عليه للمرة الثانية، وفي يوم 25 مايو العام 1923، تم ترحيله على ظهر أول سفينة تغادر البلاد إلى فرنسا.

وتسرّب الشك إلى نفسه، وعلّل أسباب هذا الرحيل بقوله: «إذا كان رجال السياسة لم يشعروا بوجودي حينئذ، فقد شعر بي الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عني وعن أمكنة وجودي وحركاتي وسكناتي، فقامت بترحيلي من جديد إلى خارج مصر».

تحوّل بيرم التونسي إلى بطل تراجيدي في حكاية أسطورية، وواجه مصيره بقلب جسور، بينما السفينة تشق أمواج البحر المتلاطمة، وتبتعد عن أرض الوطن، وتخيّل نفسه «السندباد» في حكايات ألف ليلة، ورحلاته السبع الغرائبية، لكن الأهوال التي عاشها «سندباد المنافي» من جوع وتشريد وآلام لا يطيقها بشر، تبدو أكثر دهشة وغرابة مما تعرض لها بطل «الليالي».

ظل بيرم شارداً بأفكاره، حتى وصلت السفينة إلى ميناء مارسيليا، ومشى فوق الرصيف حائراً، ولا يدري إلى أين يذهب، وبدأت رحلة أخرى مع الشقاء، وشبح الجوع يطارده كظله، واضطر للعمل شيّالاً يحمل صناديق وحقائب المسافرين، مقابل أجر زهيد، وتاقت نفسه للخلاص من هذا الكابوس الرهيب.

عامل المناجم يرسل الأزجال من مدينة ليون لجريدة «الشباب» بالقاهرة

وفي ذلك الوقت، بحث عن أي عمل في مصانع المدينة دون فائدة، حتى التقى بمحض المصادفة أحد المصريين، وحكى له مأساته فتأثر بها، وساعده في الحصول على وظيفة في شركة للصناعات الكيماوية، ولم يستطع العمل في ذلك المصنع فترة طويلة، وتدهورت صحته، ونقلوه إلى المستشفى، وبعد تماثله للشفاء، قرر ألا يعود إليه مجدداً.

وانتقل بيرم إلى مدينة «جرينوبل» جنوب شرق فرنسا، وهناك التحق بأحد المصانع، وعاوده المرض مرة أخرى، نتيجة استنشاقه الغازات الخانقة، ونُقِل إلى المستشفى من جديد، وتلك المرة طالت فترة العلاج، وقررت إدارة المصنع فصله من العمل.

واشتعلت جذوة الأمل من جديد، حين تقابل مع صديقه المخرج المسرحي عزيز عيد في باريس، وطلب الأخير منه أن يؤلف له مسرحية مقتبسة عن نص أجنبي، مقابل عشرين جنيهاً كمقدَّم، ثم سأله بيرم عن وسيلة يستطيع بها العودة إلى مصر، لأنه لم يترك وزيراً أو شخصية مهمة حضرت إلى فرنسا دون أن يقابلها لكن دون جدوى. فقال عزيز له إنه سيحاول أن يثير مشكلته مع كل مسؤول يأتي إلى مسرحه.

وعثر بيرم على رواية تسمى «لو كنت ملكاً»، وبدأ في تمصيرها، وبدّل عنوانها إلى «ليلة من ألف ليلة»، وأخرجها عزيز عيد في مسرحه بالقاهرة، وحققت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وتلقى المؤلف رسالة من المخرج، يطلب منه التفرغ لكتابة المسرحيات لفرقته وإرسالها إليه، وأنه سيمده باستمرار بالنقود، وسيترك له اختيار الأفكار بحرية تامة.

وبعد فترة، علم بيرم أن صديقه الملحن زكريا أحمد وصل إلى باريس، فأسرع لمقابلته، لكي يتوسط له عند القصر حتى يستطيع الرجوع لمصر، ولكن زكريا أحمد لم يعطه أملاً في العودة في ذلك الوقت، وغادر شيخ الملحنين باريس بعد أن وعده بمده بالنقود من وقت لآخر، وأنه سيبذل كل ما في وسعه في القاهرة للعمل على عودته إلى وطنه.

الشاعر المغترب يتسلل إلى وطنه بجواز سفر بريطاني

الألم والإبداع

مرت تسع سنوات قضاها بيرم في فرنسا بعد نفيه من مصر للمرة الثانية، انصهرت خلالها آلامه النفسية والجسدية في بوتقة إبداعه المتفرد، ووثق معاناته من خلال قصائده الزجلية، وظل يرسلها إلى الصحف المصرية بصفة مستمرة، حتى عرف ذات يوم، بخبر أثار القلق في نفسه، وهو أن السلطات الفرنسية وجهت إنذاراً للأجانب بالاستعداد لمغادرة البلاد والعودة إلى أوطانهم في أقرب وقت.

وفي تلك اللحظة، تذكر بيرم أيامه العصيبة في المنفى، وحياة التشرد التي عاشها، والجحود الذي اُستقبل به في مصر وتونس وباريس، فكتب زجله الشهير: «الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني، والتانية تونس فيها الأهل جحدوني، والتالتة باريس وفيها الكل نكروني».

ورحل «سندباد المنافي» من فرنسا إلى تونس ومنها إلى سورية، وهناك تم ترحيله على ظهر سفينة لنفيه لأي دولة في شمال أفريقيا، لكنه تمكن من الهرب بمساعدة أحد البحارة المصريين، ونزل في بورسعيد متخفيًا، خشية أن يراه أحد وينكشف أمره.

وتزامن وصول بيرم إلى مصر مع انتخابات البرلمان الجديد، في 8 أبريل عام 1938، وبدأ دورة جديدة من الهروب والخوف، ووقتها طلب من زوج ابنته نجيبة «سعيد راتب» أن يذهب إلى جريدة «الأهرام»، ويقابل صديقاً من المعجبين به ويعطيه خطاباً مهماً كتبه بمجرد هروبه من السفينة، ويقول فيه: «غلبت أقطع تذاكر وشبعت يا رب غربة».

زوجته تحصل على الطلاق بعد أن فقدت الأمل في عودته

وكان هذا الصديق الصحافي والشاعر كامل الشناوي، وطلب بيرم منه أن ينشر خطابه، وعلى الفور اتصل الشناوي برئيس تحرير الأهرام وقتذاك أنطون الجميل، وأخبره بالأمر، وفوجئ بالجميل يقول له: «إن محمد محمود رئيس الوزراء ومحمود فهمي النقراشي وزير الداخلية، وأحمد حسانين الأمين الأول في القصر، من أشد المعجبين ببيرم، وقد سمعت منهم بعض أزجاله وسأتصل بهم وأستأذنهم في نشر هذا الزجل».

وأجرى أنطون الجميل اتصالات هاتفية مع المسؤولين، واستدعى كامل الشناوي وقال له: «مبروك انشر الزجل في الصفحة الأولى»، وكانت هذه أول مرة تنشر فيها صحيفة «الأهرام» زجلاً في الصفحة الأولى، وقدّم هذا الزجل كامل الشناوي بقوله إنهم تلقوا هذا الزجل من مجهول وهو بخط بيرم التونسي، وطلب في هذا التقديم العفو عن صاحب الزجل، خصوصاً أن أبياته مليئة بالاستعطاف، وما أن نُشر هذا الزجل حتى أصدر وزير الداخلية أمرًا بتجاهل وجود بيرم في مصر.

رد الاعتبار

انطوت صفحة عذابات المنفى والتشريد، وعاد بيرم التونسي ليكتب من جديد أزجاله وفنه الشعبي في وطنه، واستقر في حي السيدة زينب بالقاهرة، وكان لا يحلو له الكتابة إلا وسط الضوضاء والضجيج، ويجلس بين أبناء الشعب على المقهى كأنه يستلهم منهم أشعاره، وذاع صيته في مجال تأليف الأغنية والمسرح الغنائي.

ومنذ عام 1940 عاش شيخ الزجالين في سلام، وبعد قيام ثورة يوليو 1952، سخّر بيرم قلمه لخدمة الشعب وأغراض الثورة، وعندما حصل على الجنسية المصرية في عام 1954، اعتبر ذلك خير رد لاعتباره من جانب الدولة المصرية. وكرمه الرئيس جمال عبدالناصر بمنحه جائزة الدولة التقديرية عام 1960، وجمعته علاقة طيبة بنائب الرئيس المصري وقتذاك، أنور السادات، وبعد عام واحد رحل فيلسوف الشعر الغنائي، وفي عام 1993 خلال فترة حكم الرئيس حسني مبارك تم وضع صورة بيرم التونسي على طابع بريد ضمن مجموعة من أبرز الشخصيات المصرية... ولا يزال شيخ الزجالين حاضراً بإبداعه وفنه الراقي حتى اليوم.

back to top