بيرم التونسي... فيلسوف الشعر الغنائي (1 -3)

• «هرم الزجل» يثير قلق أمير الشعراء على الفصحى

نشر في 25-03-2025
آخر تحديث 24-03-2025 | 15:55
ارتحل بيرم التونسي إلى عالم الشعر منذ طفولته، وحفلت حياته بتجارب قاسية، وتعرض للنفي في فترة الاحتلال البريطاني، وظل يعبّر بأشعاره وأزجاله عن طموح أمته في الحرية والاستقلال، وشدت بقصائده الوطنية والرومانسية كوكب الشرق أم كلثوم وكبار المطربين والمطربات، وتعددت ألقابه مثل «شاعر الشعب»، و«موليير الشرق»، و«هرم الزجل»، وامتدت مسيرته الإبداعية أكثر من نصف قرن، ورحل فيلسوف الشعر الغنائي في 2 يناير 1961، عن عمر ناهز 68 عاماً. ترك بيرم التونسي إرثاً فنياً شديد التنوع والثراء، بين شعر وأغانٍ وقصص ومقامات ومقالات ومسلسلات إذاعية وسيناريوهات أفلام ونصوص مسرحية، وتفرّد في كتابة الزجل بروح ساخرة، وانتقد من خلاله الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر خلال الثلث الأول من القرن العشرين. بدأ بيرم حياته الأدبية، بتأليف الشعر، إلا أنه أدرك بعد فترة أن الشعر بصوره وتراكيبه وسيلة محدودة الانتشار بين عامة الناس، فاتجه إلى الزجل، ليصل بأفكاره إلى أذهان الأغلبية العظمى من المصريين. وكانت أزجاله الأولى مليئة بالدعابة والسخرية والنقد اللاذع، وكان يبتغي العلاج السريع لعيوب المجتمع، ويعتمد في أبياته الزجلية على السرد القصصي، ليصوّر العلاقات الزوجية، ومشكلات الطلاق، والسلوكيات والعادات الاجتماعية الساذجة الموجودة آنذاك، مثل حفلات الزار والولادة والطهور.
في أزجاله الأولى شن بيرم التونسي هجومًا ضاريًا على الأميّة وآثارها السلبية في المجتمع، ونشر قصيدته «الجهل»، التي قال فيها: «الجهل قال للصنايعي، اخلف المواعيد وقول لهم بعد بكرة وبعد بكرة عيد، واحلف لهم بالطلاق إن القديم دا جديد، تفوت عليه السنة يقعد يِنِشّ وحيد، ويبتدي الفقر والأمراض والتشريد».

وفي قصيدة «يا متعتع الحجر» وصف بيرم حالة الفلاح المصري وقت الاحتلال الإنكليزي بقوله: «بعت عفشي وبعت ملكي وبعت بابي، والطاحونة والحمار والبطانية، أسأل البنك العقاري وبنك رومة، تعرف المبلغ وشيكات العزومة».

انحاز الشاعر الثائر إلى كتابة الزجل، ليصل به إلى البسطاء، واستكمل مسيرة سلفه الأديب وخطيب الثورة العرابية عبدالله النديم (1842ـ1896) في التعبير عن القضايا الوطنية، وكلاهما تتشابه ظروفه في المعاناة الحياتية والكفاح ضد المحتل البريطاني، وكتابة الأزجال الحماسية، والمصادفة أن بيرم وُلِد بعد رحيل النديم بعام واحد.

33 أغنية تضعه بين كبار الشعراء لسيدة الغناء أم كلثوم

أضفى بيرم على قصائده الزجلية جماليات الشعر، وارتقى بهذا اللون الشعري إلى آفاق غير مسبوقة، وتمتع بموهبة كبيرة في إبداع الصور الشعرية دون غموض أو التباس، وحقق شهرة واسعة، ما دفع أميرالشعراء أحمد شوقي، ليقول: «لا أخاف على الفصحى إلا من عامية بيرم».

والمفارقة أن أحمد شوقي نافس بيرم وزملاءه في كتابة شعر العامية، وله خمس قصائد من تلحين وغناء محمد عبدالوهاب، الأولى «دار البشاير» (1924)، وكتبها بمناسبة زواج ابنه، والثانية «شبكتي قلبي يا عيني»، والثالثة «اللي يحب الجمال» (1927)، والرابعة «في الليل لمّا خلي» (1932)، والأخيرة «النيل نجاشي» ((1933، وغناها عبدالوهاب بعد عام واحد من رحيل أمير الشعراء.

وحمل بيرم التونسي لواء شعر العامية في عصره، ومعه بديع خيري ويونس القاضي وأحمد رامي وآخرون، وارتقوا بهذا اللون الأدبي إلى التعبير عن القيم الإنسانية النبيلة، والانتماء الوطني، ومهدوا الطريق للأجيال اللاحقة، ومنها فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وحسين السيد، وأحمد شفيق كامل، وعبدالفتاح مصطفى، وإسماعيل الحبروك، ومن الجيل التالي عبدالرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم، ومجدي نجيب، وعبدالرحيم منصور، وغيرهم.

اتجه بيرم التونسي إلى الكتابة للمسرح الغنائي، وتعاون مع فنان الشعب سيد درويش في أوبريت «شهرزاد» وغيره، وكتب له أغنية «أنا المصري» وغناها درويش ضمن الأوبريت ذاته، وجسّدت روح الانتماء الوطني في مواجهة المحتل، وتقول كلماتها: «أنا المصري كريم العنصرين، بنيت المجد بين الأهرمين، جدودي أنشؤوا العلم العجيب، ومجرى النيل في الوادي الخصيب، لهم في الدنيا آلاف السنين، ويفنى الكون وهما موجودين».

حالة جفاء مع عبدالوهاب بعد أغنية «محلاها عيشة الفلاح»

وفي عام 1940، التقى بيرم مع كوكب الشرق أم كلثوم، وكتب لها 33 أغنية تضمنتها أفلامها السينمائية وحفلاتها الغنائية، منها «الورد جميل»، الآهات، أنا في انتظارك، هو صحيح الهوى غلاب.

وغنى له الموسيقار محمد عبدالوهاب أغنيتين فقط هما «محلاها عيشة الفلاح»، و«يلي زرعتوا البرتقان»، والبرتقان في اللهجة العامية المصرية هو «البرتقال»، وتقول كلمات الأغنية: «ياللي زرعتوا البرتقان، يللا اجمعوه، آن الأوان يللا اجمعوه، يا محلا ريحته بين الجناين، يا محلا شكله والخد باين، دا الفص منّه يسوا خزاين، يا رب كتر البرتقان، دي الشمس طالعة والجو هادي، والنيل بيجري في كل وادي».

وشدا بالأغنيتين محمد عبدالوهاب في فيلم «يحيا الحب» (1938)، وبعدها توقف تعاونهما الفني، وتقطعت السبل بينهما، واتجه بيرم للتعاون مع مطربين وملحنين آخرين، ووجد عبدالوهاب ضالته في الشاعر حسين السيد، والأخير صاحب النصيب الأكبر من ألحان موسيقار الأجيال، وتردد أن بيرم كان يهاجم عبدالوهاب بدعوى أنه يغني للطبقة الأرستقراطية، ووقتها كان معروفًا بلقب «مطرب الملوك والأمراء» وساد الجفاء بينهما حتى رحيل شيخ الزجالين، وهناك صورة وحيدة نادرة تجمع بيرم وعبدالوهاب في جلسة مع مأمون الشناوي ومحمد القصبجي.

بساط الريح



ولحن الموسيقار فريد الأطرش لبيرم عشرات الأغنيات، منها «أحبابنا يا عين»، و«إيدي في إيدك»، و«لقاء الأحبة»، وأوبريت «بساط الريح». وغنت له المطربة أسمهان «أنا اللي أستاهل» من ألحان الموسيقار محمد القصبجي، وغنت له الفنانة نور الهدى «هل هلال العيد» من ألحان فريد الأطرش، كما غني له المطرب صالح عبدالحي «ليه يا بنفسج» من ألحان الموسيقار رياض السنباطي، وحققت هذه الأغنية نجاحًا مدويًا، عندما صدرت في أسطوانات عام 1930.

وشكّل بيرم مع صديقه الموسيقار زكريا أحمد حالة غنائية فريدة، شهدت اهتمامًا خاصًا بالأغنية البدوية، وحققت نجاحًا كبيرًا، بعد أن شدت بها أم كلثوم في أفلامها السينمائية، ومن تلك الأغاني «قُل لي ولا تخبيش يا زين»، و«غني لي شوي»، وفي مجال الأغنية العاطفية «الأمل»، و«أهل الهوى»، و«يا صلاة الزين».

وكتب بيرم التونسي للسينما، وظهر اسمه على الشاشة البيضاء في فيلم «سلامة» عام 1945 كاتبًا للسيناريو والحوار والأغاني، والفيلم من بطولة أم كلثوم، وشدت الأخيرة من كلماته «في نور محياك»، و«سلام الله على الحاضرين»، و«قل لي ولا تخبيش يا زين» وغيرها.

وساهم «شيخ الزجالين» في إحياء الأعمال التراثية عبر المسلسل الإذاعي «عزيزة ويونس» عن الملحمة الشعبية المصرية الشهيرة «السيرة الهلالية»، وقدّمها بأسلوب الأوبريت، إضافة إلى أن بيرم كان أول من كتب فوازير رمضان للإذاعة المصرية، وقدمتها المذيعة المعروفة آمال فهمي، وأول من كتب المسحراتي للمطرب محمد فوزي، ومن بعده كتبها الشاعر فؤاد حداد وأداء ولحن الموسيقار سيد مكاوي، ويعد العملان من علامات شهر رمضان الإذاعية في مصر على مدار سنوات طويلة.

ساهم شيخ الزجالين في إحياء الأعمال التراثية عبر المسلسل الإذاعي «عزيزة ويونس»

اشتهر محمود محمد مصطفى بيرم الحريري، باسم «بيرم التونسي»، لأنه من أصول تونسية، لكنه وُلد يوم 23 مارس 1893 في حي الأنفوشي بمدينة الإسكندرية الساحلية في مصر، وتحديدًا في شارع «البوريني» بمنطقة «السيّالة»، وكان والده يمتلك مصنعًا للقماش، ولبيرم أخت من أبيه اسمها «لبيبة» كانت تكبره بعشرين عامًا.

وفي الرابعة من عمره، التحق بيرم بكُتَّاب الشيخ جاد الله، وكان الكُتّاب يقع في حي «زاوية خطاب» بين حي «الأنفوشي» وحي «الميدان» الذي كان فيه مصنع والده، واعتاد بعد الدراسة أن يتوجه إلى المصنع ويقضي هناك بقية اليوم، ويفكر في طريقة للخلاص من قسوة الشيخ خالد، وعدم العودة إلى الكتاب مجددًا.

وكانت عقدة الطفل الصغير أنه لا يجيد الحساب، ولا يعرف كتابة الأرقام، ويتعرّض للعقاب اليومي، ورغم شكواه المستمره لأبيه، أصر الأخير على أن يستكمل الدراسة، وأجبره على مواصلة الذهاب للكُتاب، وكان يطمح في أن يرى ابنه فقيهًا، وضاقت نفس التلميذ بمعلمه الذي تفنن في عقابه، واضطر الأب لإخراجه من الكُتَّاب، وأجلسه مع أولاد عمه في المصنع.

ويحكي بيرم في مذكراته عن تلك الفترة من حياته، أنه لم يستفد من الكُتاب إلا في الإلمام بمبادئ القراءة والكتابة فقط؛ فلم يكن للشيخ أي دور في تشجيعه على الثقافة أو قراءة الكتب، فأرسله والده إلى المعهد الديني الملحق بمسجد المرسي أبو العباس، وهناك أقبل على الدروس بنهمٍ، وأثناء عامه الأول في هذا المعهد، رحل والده، واضطر لقطع رحلته مع التعليم.

back to top