«خطبة الجمعة» منبر الوعي في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي
منذ فجر الإسلام، ظل منبر الجمعة شعلةً مضيئة في حياة المسلمين، يضيء دروبهم بالهداية. كان المنبر ولا يزال صوتاً للحكمة، ونبضاً للوعي، ومنارةً للحق. ومع انطلاقة القرن الحادي والعشرين، حيث تسيطر التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي على المشهد المعرفي، أضحى لزاماً على خطبة الجمعة أن تتجدد، لا في مضمونها الإسلامي الأصيل، بل في وسيلتها وأسلوبها، لتواكب عقول المستمعين وترتقي برسالتها إلى آفاق المستقبل. ومن خلال حواراتي مع نخبة من الخطباء والمفكرين توصلت إلى العديد من الاقتراحات والتوصيات التي تساهم في تحقيق ذلك.
وفي هذا السياق نتقدم بالشكر الجزيل إلى الأخ الفاضل وزير الأوقاف وإلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت على دورها الملموس في تطوير الوزارة وقدرات الأئمة ومهاراتهم وجهودهم المباركة في تهيئة البيئة المريحة والمتميزة في مساجد الكويت، والتي تُعد من أفضل المساجد في العالم الإسلامي من حيث التنظيم والخدمات والبنية التحتية. وجدير بالذكر أن بعض الأفكار التي ستُطرح في هذا المقال هي اجتهادات شخصية تحتاج إلى تأصيل شرعي لتحديد مدى مشروعيتها، ودعم فني لرفع فعاليتها.
الخطبة في مواجهة العصر الرقمي
لم تعد الحياة كما كانت، بل أضحت مسرحاً يتغير على إيقاع التقنية، حيث تتدفق المعلومات عبر منصات لا تُحصى، وتمتزج الحقيقة بالوهم، ويصير التلاعب بالمفاهيم أمراً مقلقاً. وهنا تتجلى خطبة الجمعة كصوت العقل والحكمة، تحصّن المسلم ضد فوضى الفتاوى وتحميه من تيارات التشكيك في الثوابت. إن مسؤولية الخطيب اليوم تتجاوز مجرد الإلقاء، فهو مطالب بأن يكون واعياً بتحولات العصر، مستوعباً لوسائل الخطاب الرقمي، قادراً على تقديم الإسلام بأسلوب علمي رصين وروح تتغلغل إلى العقول والقلوب.
موضوعات معاصرة تخاطب هموم المجتمع
إن الإسلام دين جاء ليحيا في كل زمان ومكان، ولا بد أن تتناول خطب الجمعة قضايا العصر بوعي وإدراك، ليجد المسلم في المنبر مرآةً تعكس همومه، وصوتاً يفهم واقعه. هذا وقد فصلنا في المقال السابق أهم الموضوعات المعاصرة التي تعالج احتياجات المجتمع وقضاياه، مثل: مخاطر الإدمان الرقمي، أزمة الأخلاق في الفضاء الإلكتروني، التحديات الاقتصادية والاجتماعية... إلخ.
تعلم الذكاء الاصطناعي واجب ديني
لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعي (AI) ترفاً فكرياً، بل صار واقعاً يفرض نفسه على كل تفاصيل الحياة، وتساءل البعض: هل يجوز للخطيب أن يستعين بالذكاء الاصطناعي في إعداد خطبته؟ لقد كفانا الأزهر الشريف الرد حين أعلن أن تعلم هذه التقنيات الحديثة واجبٌ دينيٌ، مثلما كان تعلم الكتابة واجباً على من يعيش في عصر المخطوطات. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون عيناً تبصر، ومساعداً يضيء درب الخطيب، يرشده إلى القضايا الملحّة، ويحلل اهتمامات الجمهور، ويمنحه رؤية أوسع. ولكن يهمنا التأكيد على أهمية دور الخطيب في التمحيص والتدقيق، حيث قد تخطئ الآلة ويبقى الخطأ الشرعي على الخطيب. وجدير بالذكر أن الذكاء الاصطناعي قد يرتكب العديد من الأخطاء في الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة – بجهل أو بغير جهل - وهنا يظهر بوضوح شديد أهمية إتقان رجال الدين لعلوم الذكاء الاصطناعي حتى لا يتلاعب بنا الآخرون بقصد أو بدون قصد.
التكنولوجيا في خدمة الروحانية
حتى تصل خطبة الجمعة إلى الأذهان بات لزاما توظيف التقنيات الرقمية، مثل شاشات العرض (البروجيكتور)، لتقديم ملخصات الخطبة وعرض نصوص الآيات والأحاديث المذكورة في الخطبة، إضافة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في الترجمة الفورية وبثها مباشرة إلى الأجهزة الشخصية للمصلين، من خلال تطبيقات الهواتف الذكية أو سماعات خاصة داخل المسجد. تكمن أهمية هذه الخطوة بالكويت في تنوع الخلفيات الثقافية واللغوية للمصلين، والتي تزيد على 100 جنسية. وجدير بالذكر أنه توجد العديد من هذه المبادرات بالفعل في بعض المساجد الكبرى، ولا مجال لمن يعترض على ذلك بحجة الخشوع، حيث يمكن دراسة الوضع الفني الأمثل لتعزيز الاستفادة ومنع التشويش على المصلين.
التعامل مع التحديات أثناء الخطبة
يجب على الخطيب تعلم مهارات التواصل، ولغة الجسد، واستخدام النبرات الصوتية المناسبة، كلها عناصر ترفع من جودة الخطبة، وتجعلها تتسلل إلى وجدان المستمع قبل عقله، كما يجب تعلم مهارات التعامل عند مواجهة المواقف الصعبة، مثل مقاطعة أو إزعاج، تعامل بهدوء وحكمة دون تصعيد، وأيضا تعلم الارتجال إذا تعذر إلقاء الخطبة كما هو مخطط أو إذا حدثت أي أعطال تقنية أو في الكهرباء مثلاً.
التفاعل الرقمي... منبر يتخطى الجدران
لم يعد مقبولاً أن ينتهي تأثير الخطبة بانتهاء الصلاة، أو أن يحبس أثرها بين جدران المسجد فقط بل يجب تعظيم الاستفادة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تمكن من إعداد محتوى مرئي ومسموع للنشر وترجمتها إلى لغات متعددة، وبهذا الصدد يمكن تسجيل الخطبة صوتياً ونشرها على منصات البودكاست الإسلامية، وإنشاء مقاطع فيديو قصيرة تلخص أبرز محاور الخطبة، ونشرها على TikTok وInstagram، كما يمكن دعوة المستمعين للتفاعل عبر التعليقات والأسئلة على وسائل التواصل الاجتماعي مع تخصيص وقت أسبوعي على منصة Zoom للإجابة على استفسارات المصلين حول موضوع الخطبة.
تقييم الخطبة
احرص على أن تتفاعل مع التعليقات والاستفسارات والإجابة على أسئلة المصلين بعد الصلاة، وكذلك طلب رأي العلماء والمشايخ في أسلوب الطرح وكيفية تطوير أسلوبك، كما نتمنى وجود إدارة مركزية لتحليل الأثر والتطوير المستمر مع إنشاء منصة إلكترونية لاستقبال اقتراحات المواضيع المستقبلية لقياس أثر الخطب وتعديل المسار وفق النتائج.
منبر يتجدد ولا يشيخ
إن خطبة الجمعة كانت ولا تزال منبراً مهماً في توجيه المسلمين وتعليمهم وحتى تحتفظ بهذا الزخم في عصر الذكاء الاصطناعي لا بد أن تتطور أدواتها وأساليبها، بحيث تصبح أكثر قرباً من الناس، وأكثر تأثيراً في توجيههم نحو الخير. فكما استخدم المسلمون الأوائل أدوات عصرهم في نشر الإسلام، نحن اليوم مطالبون بتوظيف أدوات عصرنا في خدمة هذا الدين العظيم، وإيصال رسالته بأساليب تناسب كل زمان ومكان.
*وزير الصحة الأسبق