رُب ضارة نافعة لأوروبا
رصدنا تداعيات عديدة ومتنوعة للاجتماع المأساوي الذي جمع بين الرئيس الأميركي ونائبه، والرئيس الأوكراني في البيت الأبيض بتاريخ 28 فبراير الماضي، ونُشرت الكثير من التعليقات عمّا جرى من مشادات كلامية وتصريحات انتهت بمغادرة الرئيس الأوكراني للولايات المتحدة من دون توقيع صفقة المعادن التي كان الرئيس الأميركي يسعى إليها ويحرص عليها، ومن دون أن يضمن الرئيس الأوكراني استمرار الدعم والمساعدة من الولايات المتحدة لبلده لصد الهجوم الروسي وتوغله في الأراضي الأوكرانية، والذي بدأ منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
وبدأت سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا تتغير بعد هذا الاجتماع، حيث تم تجميد المساعدات العسكرية الأميركية لها، وصدر قرار أميركي بوقف الهجمات السيبرانية ضد روسيا، وستتلاحق المواقف والقرارات لنرى الولايات المتحدة وقد انحازت إلى الجانب الروسي، داعية إلى وقف الحرب وانتهاء العمليات العسكرية والتنازل عن بعض الأراضي الأوكرانية لمصلحة روسيا، والسعي لإيجاد حلول دبلوماسية أكثر منها عسكرية للصراع بين روسيا وأوكرانيا، الذي بدأ عمليا عام 2014 باحتلال روسيا لأراضي «القرم».
ولكن ما هي النتائج المترتبة على أوروبا ودولها، نتيجة ما حدث في الأيام الماضية، وهل هناك منافع لها؟ يمكن رصد هذه النتائج فيما يخص الاتحاد الأوروبي كمنظمة إقليمية أوروبية، وفيما يتعلق بالدول الأوروبية، والتي ليست من بين دول هذا الاتحاد، ونقصد بها بريطانيا العظمى، وما يخص فرنسا بالدرجة الأولى.
سنبدأ بفرنسا صاحبة قوة الردع النووي، والتي يعود للجنرال شارل ديغول الفضل الكبير بإحداثها وتمكين فرنسا من قوة نووية سمحت لها بالخروج من عباءة الولايات المتحدة الأميركية والاستقلال بقراراتها العسكرية، بفضل انسحابها من القيادة العسكرية المشتركة لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، والطلب بمغادرة مقر الحلف من فرنسا، لتقوم العاصمة البلجيكية بروكسل باحتضانه اعتبارا من عام 1967. وتابع كل الرؤساء الفرنسيين السياسة الديغولية فيما يتعلق بالرّدع النووي، إلا أن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي قرر عام 2007 عودة فرنسا إلى القيادة العسكرية المشتركة لحلف شمال الأطلسي.
ويدور النقاش في فرنسا حالياً عن إمكانية السماح للدول الأوروبية التي لا تملك قوة الردع النووي بالاستفادة منها. وكان أن أوضح الرئيس الفرنسي إيمانويل، ماكرون في خطاب تلفزيوني ألقاه في 5 الجاري، رغبته في فتح «النقاش الاستراتيجي» حول توسيع الردع النووي الفرنسي ليشمل دولاً أوروبية أخرى.
بمعنى آخر، لم يقل بأن هذا الردع يخصنا نحن كفرنسيين ويعنينا فقط كجمهورية فرنسية، بل فتح الباب على مصراعيه لنقاش استراتيجي خاص بقوة الردع يمكن أن يكون في خدمة الدول الأوروبية. وبالطبع لم يرُق هذا الكلام لروسيا، وصرحت بذلك على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، الذي اعتبر ما قاله الرئيس الفرنسي «تهديداً»، مضيفا أن الاتهامات الموجهة ضد روسيا وعزمها على مهاجمة أوروبا هي اتهامات «سخيفة» و«وهمية».
لكن من الصعب اعتبار مثل هذه الاتهامات «وهمية» أو غير جدية، وبخاصة بعد الهجمات التي تعرّضت لها أوكرانيا عامي 2014، و2022 ولا تزال مستمرة، واحتلال الأراضي الأوكرانية الذي يتوسع مع مرور الأيام.
وإن كنّا لا نزال نتحدث عن فرنسا فيجب أن نذكّر، ونتيجة ما حدث في البيت الأبيض بواشنطن والمواقف التي تتخذها الولايات المتحدة، بالقرار الجديد الخاص برفع الميزانية العسكرية، مع وعود بعدم فرض مزيد من الضرائب. وسترتفع هذه الميزانية لتصل إلى 3 بالمئة من الناتج المحلي الفرنسي، علما بأنها حاليا 2 بالمئة، مما يعني أن على فرنسا أن تخصص مبلغ 100 مليار يورو إضافية في ميزانيتها العسكرية، لتصل إلى نسبة 3 بالمئة، مما سيسمح بتطوير الصناعات العسكرية الفرنسية، وتعزيز جيوشها ومواكبتها لآخر التطورات التكنولوجية والتقنية في المجالات العسكرية.
من جهتها، تسعى بريطانيا العظمى للعب دورها، وعلى الرغم من أنها لم تعد عضوا في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2020، في الأزمة التي تعرفها أوروبا نتيجة تبدّل مواقف الولايات المتحدة من الحرب في أوكرانيا. ودعت لندن لمؤتمر في 2 مارس، جمع 18 رئيساً ورئيس وزراء ووزراء خارجية من الدول الأوروبية، بالإضافة إلى رئيسة المفوضية الأوروبية، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي. وكان الهدف، وبالتنسيق بين فرنسا وبريطانيا العظمى، هو السعي لاعتماد خطة لوقف العمليات العسكرية، ومناقشة خطة بالتعاون أيضاً مع الولايات المتحدة لوضع حد لهذه الحرب.
وتحرّك الاتحاد الأوروبي أخيرا، وتم عقد قمة استثنائية للدول الأعضاء الـ 27 في هذا الاتحاد، وذلك يوم 6 الجاري في بروكسل، حيث تمت الموافقة على خطة غير مسبوقة للدفاع عن أوروبا، والتي تسمح برصد ما يصل إلى 800 مليار يورو لدعم تمويل دفاعي إضافي للاتحاد الأوروبي.
أردت أن أبيّن أن ما حدث في البيت الأبيض انعكس بمجموعة من المنافع والتطورات الاستراتيجية والعسكرية في القارة الأوروبية، وبخاصة على دولها ومؤسساتها، وقد كان من المفروض أن تحدث هذه التطورات منذ الأشهر الأولى لاجتياح روسيا لأراضي أوكرانيا، لأن الدبلوماسية التي انتهجتها الدول الأوروبية لم تفلح بردع العدوان الروسي واحتلال أراضي دولة أوروبية، وجاءت صدمة البيت الأبيض لتهزّ الدول الأوروبية التي عليها من الآن فصاعدا أن تعتمد على نفسها أكثر وأكثر في عالم تتعدد فيه الأقطاب بسياسات عسكرية واقتصادية وتوسعية أيضا.
* أكاديمي وكاتب سوري مقيم في فرنسا.