في ظلال الإسلام: المقاومة الوطنية التي خاضها الرسول في سراياه وغزواته

نشر في 16-03-2025
آخر تحديث 15-03-2025 | 14:58
 المستشار شفيق إمام

في خواطر الشهر الفضيل في مقال الأحد الماضي تناولت بدء نزول الوحي على ‏الرسول (ﷺ) يوم السابع عشر من شهر رمضان، لتقوم أول ثورة إسلامية، تدعو ‏إلى عبادة الله وحده وتحرير الإنسان من عبادة الأصنام، ثورة على الرق، وهي ‏تدعو إلى العدل والحرية والمساواة، بمفهومها الإلهي، وهو الإخاء الإنساني، وليلغي ‏الإسلام الرق من جذوره ومن داخله بالاعتراف بحقوق متساوية للجميع أسيادا ‏وأرقاء، وأستعيد من الذاكرة في قراءاتي عن الثورات أن آخر ثورة للعبيد هي ثورة ‏الأرقاء ضد الأسياد في الإمبراطورية الرومانية القديمة، قبل التاريخ الميلادي، حيث ‏قام سبارتاكوس وسبعون مصارعا بثورة الأرقاء، في سنة 73 قبل الميلاد، وقد ‏هربوا من مدرسة للتدريب على القتال حتى الموت.‏

حيث هزم جيش الثوار، والفلاحون الأرقاء، الذين كانوا ينضمون إلى جيش الثوار، ‏من القرى التي اجتازها، هزم جيشين رومانيين في سنتين متتاليتين، إلا أنه في ‏السنة الثالثة ق.م، تمكن جيش روماني ثالث، حشد له الرومان حشدا كبيرا، من ‏القضاء على هذه الثورة، وسحقها وتعليق العبيد على المشانق في الخلاء الذين لم ‏يعرف أسيادهم، لتسليمهم لهم، لتأتي الثورة الإسلامية لإلغاء الرق بعد سبعة قرون، ‏عندما اعترف الإسلام بحقوق متساوية لكل من الأسياد والأرقاء فحررهم من ‏داخلهم.‏

مسارات الثورة الإسلامية

وفي سياق الحديث عن مسارات الثورة الإسلامية، ونشر الدعوة الإسلامية، وقد ‏نزل الدين الإسلامي ثورة بيضاء تدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده، هدى ‏للعالمين، وقد صاحب هذه الثورة وضيق عليها الخناق إيذاء الكفار للنبي محمد (ﷺ) ‏ولمن آمن بدعوته، لمنعهم من نشر الدعوة إلى الدين الجديد، حتى هاجر منهم من ‏هاجر إلى الحبشة، ثم إلى يثرب (المدينة المنورة)، وهجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، ونشأة أول دولة في الإسلام.‏

وفي سياق نشر الإسلام كانت هناك مناوشات لهذه الثورة تنطلق من المدينة، يقوم ‏بها المهاجرون على قوافل التجارة القادمة من مكة إلى الشام وعند عودتها.‏

وقد جرى بعض المستشرقين والمؤرخين على اعتبارها من غارات القبائل على ‏بعضها البعض في الجاهلية، وأن الغاية منها حسب زعمهم نهب الأموال حتى قيل ‏في هذه الغارات شعر (وإذا لم نجد إلا أخانا... أغرنا على بكر أخينا) (من ‏كتاب شرح العقيدة الطحاوية - سفر الحوالي ص 1574).‏

وهو ما نفاه الفقيه والعالم الراحل الدكتور/ محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ ‏الأسبق وأحد كبار رجال القانون في كتابه حياة محمد، وقد شارك في بعض هذه ‏السرايا الرسول (ﷺ)، حيث أشار الدكتور هيكل إلى رأي هؤلاء المؤرخين آخذا ‏على رأيهم بعض المآخذ، حول الغرض من السرايا في هذا الكتاب، مقررا بأن ‏الإنسان يقف عندها موقف التردد والتفكير في القول بأن هذه السرايا كانت تقصد ‏حرب قريش وغزو قوافلها، لأن كل سرية لم يتعد عددها ثلاثين رجلاً (سرية ‏حمزة بن عبدالمطلب) أو ستين (سرية عبيدة) أو عشرين (سرية سعد بن أبي ‏وقاص)، وكان المعهود إليهم بحماية قوافل قريش أضعاف هذه الأعداد عادة.‏

فضلاً عن أواصر القربى وروابط الدم أو المصاهرة التي كانت تربط المهاجرين ‏بأهل مكة أصحاب هذه القوافل.‏

كما نفى الدكتور هيكل أن يكون القصد من هذه السرايا القتال بالفعل بما قد يعرض ‏مكة والمدينة لحرب أهلية بينهما، اتقاها الرسول والمسلمون في مكة ثلاث عشرة ‏سنة متتابعة من يوم بعث محمد إلى يوم هجرته إلى المدينة.‏

كما قرر أن سياسة الرسول يومئذ كانت تقوم على قواعد التفاهم والاتفاق مع ‏مختلف القبائل لكفالة حرية الدعوة الدينية من ناحية، وكفالة حسن المعاملة والجوار ‏والتعايش مع من يخالفون المسلمين في العقيدة من ناحية أخرى.‏

ولهذا كان رأي الدكتور هيكل أن الغرض من هذه السرايا هو إفهام قريش أن ‏مصلحتهم تقتضي تفاهمهم مع المسلمين من أهلهم الذين اضطروا إلى الهجرة من ‏مكة بسبب ما عانوه من اضطهاد قريش لهم، تفهما يقي الطرفين شرور العداوة ‏والبغضاء ويكفل للمسلمين حرية الدعوة إلى الدين، ولتجارة مكة حمايتها.‏

ولا نختلف مع الدكتور محمد حسين هيكل فيما قاله جملة وتفصيلا، وهو غني عن ‏التعريف سواء لدراسته للقانون والمنطق والفلسفة واتصاله بالثقافة القديمة ‏والحديثة.‏

‏وقد وصفه الأستاذ الأكبر فضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي في تعريفه كتاب ‏حياة محمد، للدكتور هيكل، بنضوج العقل وكمال العلم واتساع الاطلاع وامتداد الأفق، ‏وأنه جعل العقل حكما والبرهان أساسا للعلم.‏

إلا أن ما نقف عنده من رأي للدكتور حسين هيكل، بعض ما قاله في الرد على رأي ‏المؤرخين سالف الذكر، قوله «أفلا يقوم هذا دليلا على أن المهاجرين فكروا وفكر ‏محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم، وهم الذين بدأوا بالعداوة والحرب؟».‏

‏وهو تساؤل مشروع لا غبار أو تثريب عليه، إلا أنه في سياق ما أبداه من رأي ‏وأسباب يقوم عليها رأيه، فإننا لم نستشف من هذا كله إجابة عن تساؤله، بأن ‏هذه السرايا كانت انتقاما أم لا، بل على النقيض من ذلك، وفي موضع آخر من ‏كتابه حياة محمد ما ينفي أن يكون ذلك انتقاما، حيث وصف به الرسول (ﷺ) بأن نفسه «سمت كل سمو وارتفعت فوق الحقد والانتقام، وأنكرت كل عاطفة دنيا وبلغت من ‏النبل فوق ما يبلغ الإنسان!»‏.

وفي سمو النفس الذي لا يبلغه أحد، قرر النبي بعد دخوله مكة فاتحا ومنتصرا العفو ‏العام الذي قرره في قوله، بعد هذا النصر، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ‏أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.‏

ويضيف الكاتب الكبير وقد عرف محمد من قريش أنهم ائتمروا به ليقتلوه، وعذبوه ‏وأصحابه من قبل ذلك، ومن قاتلوه في بدر وفي أحد، ومن حاصروه في غزوة ال‏خندق، ومن ألبوا عليه العرب جميعاً، ومن لو استطاعوا قتله وتمزيقه إربا لما ‏توانوا في ذلك لحظة! هؤلاء وقريش في قبضة محمد وتحت قدميه بعد فتح مكة، ‏وأمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعا معلقة بين شفتيه، وفي سلطانه هذه الألوف ‏المدججة بالسلاح تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في رجع البصر! لكن محمدا! لكن ‏النبي! لكن رسول الله ليس بالرجل الذي يعرف العداوة أو يريد بها أن تقوم بين ‏الناس، وليس هو بالجبار ولا بالمتكبر، لقد أمكنه الله من عدوه، فقدر فعفا، فضرب ‏بذلك للعالم كله وللبشرية جمعاء مثلاً في البر والوفاء بالعهد.‏

‏(حياة محمد - د. محمد حسين هيكل - الطبعة الثالثة دار المعارف ص 426-427)‏

back to top