مرافعة: استقلال القضاء ومشروع «العدل»

نشر في 06-03-2025
آخر تحديث 05-03-2025 | 15:55
 حسين العبدالله

فكرة الحد من سُلطات القضاء وصلاحياته ليست بحديثة على مجتمعاتنا ووسطنا الإقليمي، فقد ناقشت العديد من الأنظمة الكثير من الأفكار والتصوُّرات حول استقلال القضاء، ومنها ما عُرض في المحافل والمؤتمرات المهمة، كالذي ناقشه اجتماع نادي القضاة في مصر بشأن إحدى الأفكار الخاصة بمشروع القضاء، والذي كان لرئيسه الراحل المستشار محمد وجدي عبدالصمد كلمة مهمة أمام الرئيس المصري الراحل أنور السادات، قال فيها نصاً: «تعلمون أن القضاء ولاية لا وظيفة ولا مرفقاً، ولن يكون، فالقاضي لا يلغي حُكمه أو يعدِّله إلا قاضٍ مثله، وللقضاء في الأزمنة كافة، وفي بلاد العالم المتمدنة جميعها، شأنه وخطره وقداسته وجلاله بسهره على حماية الحُريات، وصون الحقوق، وتطبيق القوانين، ومهما غلا ثمن الحصول على العدالة، فإن الظلم أكثر فداحة وغلواً، وما لم يقم على شؤون العدالة قضاة فوق الخوف وفوق كل ملامة، فإن الأمر ينتهي إلى أن تسود قوة السلاح وشريعة الغاب، فتتأخر الأمم بعد تقدُّم، وتفتقر بعد غِنى، وتضعف من بعد قوة، ومن ثم كان الحرص على استقلال القضاء كسُلطة، وتوقير القضاة كأفراد، وإحاطتهم بكل الضمانات، وتأكيد مبدأ الشرعية وسيادة القانون، في ظل من سيادة الرقابة القضائية وحدها، وحيث لا تمس حُريات المواطنين إلا طبقاً لأحكام القانون وحده، وبحُكم من القضاء العام وحده، وبالإجراءات المتبعة أمامه وحده».

كلمات المستشار الجليل عبدالصمد، رحمه الله، كانت نتاجاً لمطالبات نادي القضاة في مصر، للتأكيد على استقلال القضاء ورفعته، كون القضاء سُلطة كفل لها الدستور العديد من الأحكام التي تؤكد مكانته وصلاحياته، شأنه في ذلك شأن العديد من الدساتير الحديثة التي كفلت للقضاء مكانته واستقلاله، كدستور دولة الكويت.

تذكَّرت وأنا أقرأ التعديلات المقترحة من قِبل وزارة العدل بشأن قانون تنظيم القضاء الحقب التاريخية التي تخللت عرض الأفكار التي تناولت مسألة تعديل قانون القضاء، والتي كان بعضها يطالب بمزيد من الاستقلال الإداري والمالي من قِبل السُّلطة القضائية، إلى محاولات الحكومة حينها للحد من تلك الأفكار، والتنبيه إلى خطورة إقرارها على القضاء، وأن الحكومة على أتم الاستعداد لإقرار كل مطالب أعضاء السُّلطة القضائية بالقدر الذي تسمح به أحكام الدستور والميزانية العامة للدولة.

لكن بعد الرجوع إلى مشروع القانون الذي أعدَّته وزارة العدل بشأن تنظيم القضاء، فإنه يتضمَّن جملة من الأفكار التي تبعد تماماً فكرة استقلال القضاء إدارياً ومالياً، بخلاف ما كانت تدور حوله المطالبات سابقاً، بتحقيق أفكار ذلك الاستقلال المالي والإداري للجهاز القضائي.

كما تضمَّن مشروع القانون عدداً من الأفكار التي تمنح وزير العدل الحق في الإشراف على القضاء في المادة 36 من المشروع. كما تنص المادة 66 من المشروع على أن لوزير العدل الرقابة والإشراف على النيابة العامة، ثم ينص المشروع من جانب آخر على أن النيابة العامة هي جزء من السُّلطة القضائية، فتلك الأفكار تثير عدم اتساقها مع فكرة استقلال القضاء، لتضمن المشروع، حتى وإن كان في باب التأديب على القضاء والنيابة، منح السُّلطة لوزير العدل في الحق للإشراف على القضاء والإشراف والرقابة على أعمال النيابة، التي هي جزء من السُّلطة القضائية.

وكان يتعيَّن بما أن المشروع منح لمجلس القضاء الحق في إيقاف القاضي أو عضو النيابة عن العمل، أن يركن أمر التأديب لمجلس القضاء برمته على القضاء والنيابة العامة، دون أن يعطي لوزير العدل أياً من السُّلطات، سواء اتصلت بالإشراف، أو الرقابة على سُلطة التأديب لأعضاء السُّلطة القضائية.

ومنح المشروع في حُكم المادتين 36 و66 الصلاحيات للسيد وزير العدل قد يفتح مستقبلاً باب النقاش عن حدود ونطاق تلك الصلاحيات التي منحتها المادتان له، في ظل تأكيد أحكام الدستور على استقلال القضاء، وهو ما يتعيَّن معه النظر مجدداً في صياغة تلك المواد، وغيرها، المتصلة بسُلطات الوزير، حتى لا تتصادم تلك الأفكار مع فكرة الاستقلال.

وسبق للقضاء أن أرسل جملة من الملاحظات من مجلسه إلى وزارة العدل تتضمَّن رأيه في المشروع، على أن تعمد الوزارة إلى دراستها، ورفع المشروع إلى مجلس الوزراء لإقراره، باعتباره أحد المتطلبات التشريعية التي ترى وزارة العدل أهمية إقرار قانونها.

في الختام، أتمنى أن يكون قانون تنظيم القضاء المقبل نتاج تفاهم مشترك بين مجلس القضاء ووزارة العدل حول أفكار القانون، وبما يسمح للقضاء أن يحقق طلباته واحتياجاته الإدارية والمالية، ويُبعد سُلطات الوزير الإشرافية، ويسندها لمجلس القضاء وحده، لاسيما في ظل الأفكار الداعية إلى إنشاء الأمانة العامة لمجلس القضاء، بعد أن يندب لها موظفين مختصين في الشأنين الإداري والمالي لتحقيق طلبات القضاء واحتياجاته.

back to top