محمد القصبجي... عملاق العود والتلحين (2 - 2)
الكرسي الشاغر يودّع «الأطلال» خلف أم كلثوم
يُعد الموسيقار رياض السنباطي من تلاميذ «أستاذ الأساتذة»، وله مقولة شهيرة «كلنا كنا القصبجي»، وتعني أنه كلما سلك القصبجي طريقاً جديداً سار وراءه الجميع، ليس لأنه الأكثر شعبيّة، وإنما لأن ألحانه كانت دائماً الأنسب للنهوض بالموسيقى وتوسيع مساحات الابتكار. وفي حديثه عن أثر سيد درويش على من جاؤوا مِن بعده قال: «جميعنا خرج من جِبة سيد درويش.. أنا ومحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد، باستثناء محمد القصبجي، لأنه دومًا مختلف، ويمتلك شخصية تأليفية لا يتقنها أحدٌ سواه».
وامتد تأثير القصبجي على الأجيال اللاحقة من الملحنين، واعترف الموسيقار بليغ حمدي بتأثر أغانيه المبكرة بأسلوب القصبجي، وعندما سُئل عن ذلك أجاب: «هو حاجة تانية»، وقيل إن هذا الرأي أغضب موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، واعتبره إنكارًا لفضله على جيل بليغ وكمال الطويل ومحمد الموجي وعبدالحليم حافظ، والأخير قال في حديث إذاعي: «كلنا خرجنا من جيب عبدالوهاب».
«المجدد» يتسبب في غضب موسيقار الأجيال من بليغ حمدي
علياء المنذر الأطرش
سلطانة الطرب
شهدت فترة العشرينيات تألق المطربة منيرة المهدية، وكان كامل الخلعي يلحن لها أعمالها المسرحية، وعن طريقه تعرّف القصبجي على سلطانة الطرب، ولحن لها نحو 20 أغنية، سجلتها منيرة على أسطوانات «بيضافون»، وحققت انتشارًا كبيرًا، منها «الهزار والفرفشة»، و»أشكي لمين ذل الهوى»، و»على دول يامه على دول»، و»الجفا بعد الوفا».
وفي عام 1927، كوّن القصبجي فرقته الموسيقية، وضمت أبرع العازفين أمثال محمد العقاد للقانون، وسامي الشوا الملقب بأمير الكمان، وكان هو عازف العود في الفرقة، ولم يتوقف عند الشكل التقليدي للفرقة الموسيقية العربية، فأضاف إلى فرقته آلتي التشيلو والكونترباص وهما آلتان غربيتان.
أم كلثوم ترفض الغناء من ألحانه بعد نجاح «رق الحبيب»
حرم المفتش
وقدّم القصبجي ألحانًا عديدة للسينما وكان من أكثر الملحنين إنتاجًا طوال 50 عامًا، كما قدم للمسرح الغنائي الكثير من مسرحيات فرقة منيرة المهدية منها «المظلومة»، و»كيد النسا»، و»حياة النفوس»، و»حرم المفتش»، والأخيرة هي الأشهر ومن تأليف يونس القاضي وإخراج عبدالعزيز خليل، كما قدّم لفرقة نجيب الريحاني ثلاثة ألحان في أوبريت «نجمة الصباح».
القصبجي لحَّن أيضًا الفصل الأول من «أوبرا عايدة» وغنته أم كلثوم في فيلمها «عايدة» (1942)، وظل يطوّر في ألحانه بما يتناسب مع الفكرة الدرامية للأغنية.
ومن مقطوعاته الموسيقية «ذكرياتي» التي تمرد فيها على القالب التركي التقليدي، وأضاف إليها إيقاعات متنوعة، والعزف المنفرد على العود غير المصحوب بإيقاع، وابتكر تكنيكًا جديدًا في العزف، وتعد من المقطوعات الشهيرة، وقلما يعرفها عازف عود أو كمان.
الصياد والطيور
تحوّل القصبجي إلى صياد يطارد الأصوات الجميلة، وأسره صوت علياء الأطرش، والدة فريد وآسمهان الأطرش، وتعرّف عليها عن طريق الشيخ محمود صبح، وفريد غصن، وداود حسني، وزكريا أحمد. ولحن القصبجي لها بعض الأغنيات مسجلة في أرشيف شركة كولومبيا، باسم المطربة الأميرة علياء المنذر الأطرش.
وكانت الأميرة علياء تقيم سهرات فنية، يلتقي فيها كبار الفنانين والكتاب والأدباء، وفي إحدى الأمسيات استمع لصوت ابنتها أسمهان تردد بعض الآهات والليالي، فأسره صوتها، وقدمها إلى كبار الملحنين والمطربين، منهم المطرب محمود صبح، والملحنين داود حسني وزكريا أحمد وغريد غصن، وتنبأوا لها بمستقبل باهر.
ويعتبر القصبجي الملحن الوحيد الذي تفهم إمكانات صوت أسمهان، فلحن لها ما يتماشى مع قوة صوتها وعذوبته، كما يعد الملحن الثاني على مستوى عدد الألحان التي قدمها لهذا الصوت الملائكي بعد فريد الأطرش.
وذكرت المؤرخة الموسيقية الدكتورة رتيبة الحفني، أن أسمهان تسببت في توتر العلاقة بين القصبجي وأم كلثوم، واستشعرت الأخيرة خطورة هذا الصوت عليها، وحاولت حصر ألحان القصبجي بها، إلا أنه استمر في التلحين لأسمهان، وبدأ أول جفاء بين أم كلثوم والقصبجي، وكاد يصل إلى إبعاده عن تختها، لولا تضامن أعضاء الفرقة معه.
عبدالوهاب يعترف بأستاذية القصبجي في تطوير الألحان الشرقية
غابات فيينا
واستمر القصبجي في مد أسمهان بروائعه الغنائية ومنها «هل تيم البان»، و»الطيور»، بعد أن رفضت أم كلثوم أسلوب القصبجي المجدد في التلحين، واتجهت إلى ألحان زكريا أحمد التي كانت تعتمد على الطرب.
وكانت أغنية «الطيور» لا تتفق وصوت أم كلثوم، بينما أدتها أسمهان ببراعة وتمكن، ولهذه الأغنية قصة رواها صديق القصبجي الدكتور محمود الحفني (أول عربي يحصل على الدكتوراه في الموسيقى)، وكثيرًا ما كان يأتي لزيارته، والاستماع إلى تسجيلات من الموسيقى والغناء الغربي، وذات مرة استمع إلى صوت المغنية النمساوية «إرنا زاك» في فالس «غابات فيينا» من موسيقى شتراوس أكثر من مرة، وانبهر بأداء المغنية لنغمات حادة شبيهة بتغريد العصفور بمصاحبة آلة الفلوت، وكان يضرب برأسه في الحائط مرددًا كلمات الاستحسان، وطلب من صديقه الحفني إحضار العود، وأخذ يدندن بعض النغمات.
وفي اليوم التالي، انتهى من لحن «الطيور» الذي استوحاه من أداء المغنية النمساوية، وغنت هذا اللحن أسمهان باقتدار كبير، ورحلت أسمهان عام 1944، في العام ذاته الذي قدّم فيه محمد القصبجي آخر ألحانه «رق الحبيب» لأم كلثوم، وبذلك ضاعت من بين يدي القصبجي جوهرته التي كان يمدها بأجمل ألحانه.
اللحن الأخير
لحّن محمد القصبجي لأم كلثوم نحو 72 أغنية، بينها بعض الأغاني المفقودة، ومعظمها من تأليف الشاعر أحمد رامي، واستهلها بأغنية «قال إيه حلف» عام 1924، وانتهت بثلاث أغنيات لحنها لها في فيلم «فاطمة» عام 1947.
وكان هذا الملحن العبقري من أقرب الشخصيات لأم كلثوم، وصاحب أول لحن غنته في الإذاعة المصرية، مونولوج «ياللي جفاك المنام»، وآخر ما غنت أم كلثوم للقصبجي «رق الحبيب»، وكلاهما من تأليف أحمد رامي، وسجلت الأغنية الأخيرة على أسطوانات كايروفون عام 1944، وظل انقطاع تعاونهما غامضًا، على الرغم من اعتراف «الست» طوال حياتها بفن القصبجي في التلحين.
روى المؤرخ الموسيقي محمود كامل، مأساة القصبجي مع أم كلثوم بعد «رق الحبيب» أنها أعطته في عام 1954 بعض أغانيها ليلحنها، منها أغنية وطنية للشاعر أحمد رامي، يقول مطلعها: «يا دعاة الحق هذا يومنا» لكي تسجلها في الإذاعة بمناسبة أعياد ثورة يوليو. وعاد الأمل من جديد إلى قلبه، وكان من فرط فرحته ونشوته، كلما انتهى من تلحين مقطع منها، يحمل عوده مسرعًا إلى فيلا أم كلثوم بالزمالك، يسمعها ما لحنه. وكانت تبدي له علامات الرضا، فيعود إلى منزله منشرح الصدر، وظل هكذا إلى أن انتهى من تلحين نصف الأغنية. وجاءت أم كلثوم إلى منزل القصبجي لسماع اللحن، ومعها الشاعر أحمد رامي ومحمود كامل، وأمسك القصبجي بعوده وراح يغني اللحن.
ولكن أمله خاب، ولم تقتنع «الست» بلحن الأغنية، وأشارت عليه بأن يعيد تلحينها من جديد. وحاول القصبجي أن يؤكد لها أنه ليس في الإمكان أبدع من هذا اللحن، ولكن دون جدوى، ولم تعهد أم كلثوم بالأغنية إلى ملحن آخر، وإنما اعتذرت عن عدم غنائها، واكتفت بأغنيتها المعروفة «مصر التي في خاطري وفي دمي» كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي، التي سجلتها في العام السابق.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي يحاول فيها محمد القصبجي أن يلحن لأم كلثوم بعد أغنية «رق الحبيب»، ولا يُكتب له التوفيق، فقد كان من المقرر أن نسمع رائعة السنباطي «سهران لوحدي أناجي طيفك الساري» بأنغام القصبجي، لكن أم كلثوم لم ترضَ عن لحن الأغنية، فسحبت كلماتها من القصبجي وعهدت بها إلى السنباطي. وكان مُنتظرًا أن يلحن أغنيتين هما «نشيد الجلاء» من أشعار أحمد رامي، و»للصبر حدود» تأليف عبدالوهاب محمد، لكنهما كانتا من نصيب الملحن محمد الموجي.
وبعد تراجع أم كلثوم عن غناء ألحان القصبجي، ساد الفتور بينهما، رغم تعلُّق القصبجي بها فنيًا وروحيًا، واستمراره في العمل في فرقتها الموسيقية، إلا أن هذه التصرفات الأخيرة جرحت شعوره، وقبل رحيله بعامين، ساءت العلاقة بينهما أكثر، وأصبحت علاقة عمل فقط.
ويعلّل الناقد الفني كمال النجمي تفاقم هذا الخلاف بين أم كلثوم والقصبجي، بأن الأخير كان يهمس لأصدقائه بأن أم كلثوم قد أصابته بـ «عقدة نفسية» فلم يعد قادرًا على التلحين، وذات يوم قالت أم كلثوم للقصبجي: «يبدو يا (قصب) أنك محتاج إلى راحة طويلة»! وارتاح القصبجي عشر سنوات كاملة، حيث اعتمدت «السِت» بشكل أساسي على ألحان رياض السنباطي وزكريا أحمد.
رياض السنباطي يكشف سر مقولته «كلنا كنا القصبجي»
الكرسي الشاغر
ومن المواقف التي تُظهر مدى تعلق القصبجي بأم كلثوم، أنه أجرى عملية جراحية في عينه في مطلع فبراير عام 1962، وعلى الرغم من ذلك لم تعقه العملية عن الاشتراك في حفلة أم كلثوم. واستمر قائدًا للفرقة حتى أسندت أم كلثوم إلى محمد عبده صالح عازف القانون إدارتها، فأصبح القصبجي عضوًا مثل الآخرين في الفرقة.
وكان آخر لحن شارك فيه القصبجي بالعزف في فرقة أم كلثوم، قصيدة «الأطلال» للشاعر إبراهيم ناجي، ومن ألحان رياض السنباطي، إلا أنه رحل قبل تقديمها على المسرح. وقدمت أم كلثوم هذه القصيدة بعد وفاته بأسبوعين، في حفلها الشهري يوم 7 أبريل 1966، وتركت مكان القصبجي شاغراً، وأصبح صاحب أشهر كرسي خلف كوكب الشرق.
لم يحظ الموسيقار محمد القصبجي في مسيرته الطويلة بالتقدير المناسب لإنجازاته الموسيقية الرائدة، وتسلّل اليأس إلى نفسه، وتمكن منه المرض، حتى رحل في يوم 26 مارس 1966، عن عمر ناهز 74 عامًا، تاركًا بصمات فنية لا تنمحي من ذاكرة الموسيقى والألحان العربية جيلًا بعد جيل.
كامل الخلعي يمنحه فرصة التلحين للمطربة منيرة المهدية
الأطباء يمنعون الملحن الشهير عن الزواج الخامس!
اعتبر محمد القصبجي أن حياته الأسرية ملكاً له وحده، فلم يعرف الكثير من المحيطين به إن كان متزوجاً أم عازباً، وقيل إنه تزوّج أربع مرات، وفي كل مرة كان يطلّق زوجته لعدم إنجابها ولدًا يحمل اسمه. وفي المرة الأخيرة أفهمه الأطباء أن عدم الإنجاب لا يرجع إلى عقم الزوجة، فاستسلم لزواجه الرابع.
كانت السنوات الأخيرة في حياة القصبجي سنوات شقاء، بسبب إبعاده عن التلحين برغم أنه كان يشعر بأنه قادر على الإنتاج والعمل، وأنه لا تزال لديه أفكار جديدة وألحان مبتكرة. كان يرى زملاءه غارقين لآذانهم يلحنون ويبدعون، وهو العاطل المستبعد من الإذاعة وشركات الأسطوانات، لا يكلفه أحد بعمل، وكان يخشى في سنواته الأخيرة أن يحتل مقعده في فرقة أم كلثوم، عازف آخر على العود.
ومن المواقف التي آلمت القصبجي، موقف وزارة الثقافة منه عند إنشائها معهد الموسيقى القومي «الكونسرفاتوار» عام 1959، فقد تم افتتاح قسم في المعهد للغناء العربي، وعُيّن زميله رياض السنباطي للتدريس فيه، ولم يفكر أحد في إسناد وظيفة مماثلة له، وهو الذي تخرّج على يديه عشرات الفنانين والأساتذة.
محمد القصبجي
أم كلثوم تتدخل لإعطاء القصبجي أجره كاملاً
كان الموسيقار محمد القصبجي مخلصاً للمطربة أم كلثوم، ولم يتخلَ عن العمل معها، رغم رفضها الغناء من ألحانه بعد أغنية «رق الحبيب»، وكانت حفلاتها مقدسة لديه، لا يعوقه الاشتراك فيها أي شيء، مهما بلغت أهميته، وارتضى أن يكون عازًفا في فرقتها، رغم شعوره بالألم من اعتمادها على ملحنين آخرين، بعضهم من تلاميذه.
وحدث أن أهدت أم كلثوم للاذاعة في عام 1952 بعض تسجيلاتها الغنائية لتذيعها دون مقابل، كان من بينها لحن «رق الحبيب» وطلبت من المسؤولين دفع نصيب المؤلفين والملحنين في هذه التسجيلات، فقررت الإذاعة صرف 200 جنيه للقصبجي، لكنه رفض هذا التقدير، وأبرق إلى مدير الإذاعة محتجًا على هذا التصرف، وطالب بمساواته بزميله رياض السنباطي الذي قدرت له الإذاعة 300 جنيه بحجة أن قيمة الفنان تنخفض وترتفع تبعًا لقلة وغزارة إنتاجه، وأن أم كلثوم لا تغني الآن من ألحان القصبجي.
ولما سمعت أم كلثوم بما حدث، لم ترض عن هذا التصرف، ووعدت بالاتصال بالمسؤولين لمنح القصبجي حقه المشروع، وبعد تدخلها حصل القصبجي على أجره كاملًا.