ضبابية الاقتصاد في زمن الحرب

نشر في 25-12-2022
آخر تحديث 24-12-2022 | 19:55
 بروجيكت سنديكيت

في الأوقات غير العادية مثل الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية، يلجأ كل الساسة إلى تدابير استثنائية لتخفيف الأثر الاقتصادي والاجتماعي السلبي على مواطني بلدانهم، لكن الأفضل بينهم فقط يفعلون ذلك وهم يضعون المستقبل في الحسبان، فيساعدون في تهيئة الظروف الملائمة لتحقيق الرخاء الأبعد أمداً، وعلى حد تعبير الملكة الراحلة إليزابيث الثانية: «ما يقدمه القادة لشعوبهم اليوم هو الحكم والسياسة، أما ما يفعلونه لأهل الغد فهو فن إدارة الدولة».

نتيجة لتداعيات غزو روسيا لأوكرانيا، تتصرف العديد من الحكومات اليوم كما لو كانت هي أيضاً تخوض حرباً، لكن هذه الحكومات فشلت في الانتباه إلى نصيحة الملكة الضمنية، لأن التخطيط للأجل القصير أصبح شائعاً جداً في عملية صنع القرار الاقتصادي.

تتناقض اللحظة الحالية بشكل صارخ مع بداية عام 2021، عندما كانت أغلب الحكومات تركز على بناء المرونة والقدرة على الصمود، والاستعداد لجائحة أخرى، وتقليص الدعم المالي الذي قدمته خلال أزمة جائحة «كوفيد 19». لقد أصبح منع الضغوط المفرطة المفروضة على الميزانيات الحكومية أولوية إلى جانب التحديات الأطول أجلاً مثل مكافحة تغير المناخ، لكن هذا يبدو الآن كأنه حدث قبل دهور.

صحيح أننا لم نغفل عن تغير المناخ، وستؤدي أزمة الطاقة في أوروبا في الأرجح إلى التعجيل بالتحول الأخضر في القارة، حيث يجري توجيه المزيد من الاستثمار إلى مصادر الطاقة المتجددة، كما أصبح الحصول على تصاريح لتشييد بنية أساسية أكثر اخضراراً لمشاريع الطاقة أكثر سهولة، لكن نقص الغاز الطبيعي أجبر أيضاً بعض البلدان على التحول إلى الفحم، مما أدى إلى تأخير خططها للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري الأكثر احتواءً على الكربون.

الآن بعد أن صار الفحم أرخص من الغاز الطبيعي، أصبح التخلص من عادة الفحم أشد صعوبة، ولكن إذا استعنا بالسياسات الصحيحة، فقد يعوّض التقدم الأسرع في المستقبل عن هذه الانتكاسة، فضلاً عن ذلك، لا يستطيع أحد أن يلوم الحكومات على القيام بما يجب عليها أن تفعل لحماية الأسر التي تفتقر إلى أمن الطاقة في ظل الظروف غير العادية التي نعيشها اليوم.

الأمر الأكثر استعصاءً على الفهم هو القرار الذي اتخذته حكومات عديدة بخفض الضرائب على الطاقة والوقود، فقد اتخذت أغلبية البلدان الأعضاء في مجموعة السبع (كندا، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة) هذه الخطوة، كما شاعت تدابير مماثلة في كندا وأوروبا الشرقية، حيث تضررت الأسر بشكل أشد قسوةً بفعل ارتفاع تكاليف التدفئة.

تكمن المشكلة، بطبيعة الحال، في أن دعم الوقود يقلل من الحافز لتوفير الطاقة ويشوّه الإشارة السِّعرية اللازمة لجعل الاقتصاد أقل استهلاكاً للكربون، كما أنه عبء أكبر كثيراً تتحمله الميزانيات العامة مقارنة بالتحويلات التي تغطيها الموارد إلى الأسر المستضعفة، لكن إعانات الدعم الشاملة أبسط في التنفيذ وأكثر شعبية بين الناخبين، ولهذا السبب استغلها أهل السياسة.

على نحو مماثل، في حين أن الأسر الأكثر فقراً هي تلك التي تحتاج إلى المساعدة في التعامل مع أسعار الفائدة المتزايدة الارتفاع بسرعة (وهو التطور الذي باغَت حتى العديد من خبراء الاقتصاد)، فإن الحكومات تستسلم لإغراء مساعدة الجميع، وبدلاً من التركيز على أولئك الذين خسروا وظائفهم أو أصبحوا عاجزين بشكل مؤقت عن سداد ديونهم، تستكشف الحكومات تدخلات أوسع نطاقاً قد تؤتي ثمارها في الانتخابات المقبلة.

قدمت حكومة بولندا، على سبيل المثال، التأجيل الشامل لخدمة الديون في السابع من يوليو 2022، مما سمح لكل البولنديين الذين لديهم رهن عقاري يغطي العقارات «للاستخدام الخاص» بتجنب السداد مدة ثمانية أشهر، وتشير تقديرات بنك بولندا الوطني ورابطة البنوك البولندية إلى أن هذه السياسة ستكلف القطاع المصرفي من 4 إلى 5.4 مليارات دولار.

الواقع أن هذا النوع من تأجيل سداد الديون شديد التشويه، وهو يأتي بعد تشويه آخر وفي الاستجابة له، فقد عملت السيولة الزائدة في النظام المصرفي على الإبقاء على أسعار الفائدة على الودائع عند مستوى بالغ الانخفاض، مما خلق بالتالي انطباعاً بأن البنوك ترفع أسعار الفائدة بشكل غير عادل على قروض الرهن العقاري وغيرها من القروض، ورغم أن تأجيل سداد الديون على هذا النحو يفرض تكاليف باهظة بشكل خاص على القطاع المصرفي في الأمد القريب، فإن تداعياته ستكون محسوسة على نطاق أوسع.

بادئ ذي بدء، هذه سياسة شديدة الرجعية ولن تعود بالفائدة إلا على أصحاب العقارات الأكبر حجماً، وقد تضعف أيضاً آلية انتقال السياسة النقدية، وتخفف من تأثير أسعار الفائدة الأعلى على النشاط الاقتصادي، وتجبر البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة إلى مستويات أعلى في المستقبل لتحقيق ذات التأثير، ومن خلال خلق التوقع بأن الحكومة ستعلن عطلة للديون كلما حدثت صدمة، فإنها تقدم بذلك خطراً أخلاقياً. في هذه الحالة ربما تزيد البنوك من تكاليف قروضها تحسباً لاحتمال تأجيل سداد الديون في المستقبل.

الإجراء الأرخص والأكثر عقلانية يتلخص في «صندوق دعم المقترضين» الذي عملت بولندا أيضاً على توسيع نطاقه في عام 2022 لدعم أولئك الذين يخسرون وظائفهم أو الذين تتجاوز تكاليف رهنهم العقاري 50 في المئة من دخلهم الشهري. أتى تمويل هذا الصندوق من مساهمات البنوك بقيمة 400 مليون دولار، من خلال توسيع نطاق تغطيته إلى المزيد من الأسر المحتاجة، ويصبح بوسع صناع السياسات تجنب العديد من التشوهات المذكورة أعلاه مع الاستمرار في حماية الفئات الأكثر ضعفاً في ذات الوقت، وبالطبع، قد لا يوفر هذا النهج دَفعة كبيرة للحكومة في وقت الانتخابات.

في هذه المرحلة، نوقش «الوضع الطبيعي الجديد» فترة طويلة حتى أن بعض صناع السياسات نسوا علم الاقتصاد الأساسي، فقد أقنعوا أنفسهم بإمكانية زيادة الإنفاق العام دون تحديد أي وسيلة لتغطية تكاليفه، ودون الحاجة إلى القلق بشأن الإشارات التي يرسلونها إلى الأسواق، أو أن أسعار الفائدة الأكثر انخفاضاً ستجلب تضخماً أقل (كما يعتقد بوضوح رئيس تركيا)، أو أن ضوابط الأسعار لا تؤدي إلى حالات عجز أو نقص. ولكن تماماً كما أنه لا يمكننا أن نتمنى التخلص من الجاذبية، فإننا لا نستطيع أيضاً الهروب من قوانين الاقتصاد، وعاجلاً أو آجلاً، لابد أن يأتي يوم الحساب.

من عجيب المفارقات هنا أن أوكرانيا الدولة التي تخوض حرباً بالفعل واصلت التركيز على مستقبلها في الأمد البعيد، فقد كانت تسدد ديونها الخارجية حتى وقت قريب جداً، ثم طلبت إعادة الجدولة لتجنب العجز عن السداد وكل العواقب الطويلة الأجل المترتبة على ذلك. وهي تُعد بالفعل الخطط لإعادة البناء، حتى برغم أنه لا أحد يعلم متى ستنتهي الحرب.

الحق أن أوكرانيا تعرف كيف يبدو الاقتصاد في زمن الحرب، وعار على أولئك الذين لا يخوضون حرباً ويغفلون عن ضرورة الاهتمام بالمستقبل.

* بياتا جافورسيك كبيرة خبراء الاقتصاد في البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية، وأستاذة الاقتصاد في جامعة أكسفورد.

back to top