أين اللبنة القلقة في بناء واقعنا الإشكالي؟

نشر في 21-02-2025
آخر تحديث 20-02-2025 | 18:30
 ناجي الملا

في النظريات الأدبية المعاصرة، يقول النقاد إن العمل الأدبي تنفك عقده وينكشف معناه المركزي للدارس إذا تم اكتشاف اللبنة القلقة الكامنة فيه، وهي تلك اللبنة التي إذا حرَّكتها أنهار النص، فسيبوح بفكرته وشاغله الرئيسي.

في المجال الاجتماعي، كما النص، قد تتشابك المشكلات والمواقف، وتتفرَّع، وتختبئ أسبابها، لكن بمجرَّد اكتشاف اللبنة القلقة تنهار كل الأغلفة، وينكشف السبب المركزي للعقل.

ولا بد أن يسبق هذا الكشف كسر الطوق العقلي والنفسي الذي فرضته المسلَّمات الراسخة والقناعات المتجذرة في العقلية والنفسية العامة، حيث تنسد معهما كل المنافذ الضرورية والإبداعية التي تنبع منها الحلول والأفكار الهادية إلى أرشد القرارات، والمتصلة بالتغيير والتطوير، والتي تتسم بالبساطة والوضوح، بحيث تتلاشى معها الهمهمة والغمغمة، أو الردود المعلَّبة، التي زرعت الملل، وانعدمت معها الثقة، وكانت نتائجها ولادة حلول مُبتسرة خالية من النجاعة والرشاد.

وحتى ندخل في الموضوع مباشرة، أزعم بأن اللبنة القلقة هي فكرة قيام الدولة بالنشاط الإنتاجي من صحة وتعليم وإسكان وإدارة محطات إنتاج الكهرباء والماء والوقود والمنتجات البترولية، والمواصلات والاتصالات والبريد والموانئ. وعدم الأخذ بنهج الخصخصة لهذه الأنشطة هو أساس كل المشكلات، لأنها تسري بتأثيرها السلبي إلى أدق شعيرات وشرايين الحياة، بكل حقولها، ليس فقط السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما أيضاً تمس الحياة الثقافية والنفسية، حيث تجذَّرت لدينا ثقافة المطالبة بالحقوق قبل أداء الواجب، وثقافة ونفسية تقييم العاملين والموظفين ليست على جودة العمل ومنفعته، بل بناءً على الشهادات الورقية التي قادت إلى تزويرها، والتكالب على الجامعات التي تمنح شهادات ورقية.

فضلا عن بروز إفرازات القطاع العام الخطيرة، المتمثلة بعدم الالتزام بالدوام، مما استدعى معه وضع أكثر من بصمة لإثبات الحضور، وغياب معايير الأداء بالمعنى العلمي الرصين لوضع التقييم المنصف للعاملين وتبرير المكافآت.

فضلاً عن توطُّن الواسطة والمحسوبية والترقيات الباراشوتية والشللية، وغيرها من السلبيات.

والأخطر أن هذا الوضع الجانح خلق بطالة مقنَّعة تتراوح بين 60 و80 في المئة تلتهم بشراهة معظم الدخل، فيصل الباب الأول، الخاص بالرواتب والأجور وإجمالي الدعوم، إلى ما يزيد على 19 مليار دينار، وهو ما يفوق كل الدخل النفطي وغير النفطي.

ولا ننسى التشابك النَّكِد بين القطاع العام ومصالح معظم نواب البرلمان، واستحلاب القطاع العام عبر الواسطات وممارسة الضغوط الفظَّة على الوزراء والمسؤولين، وكيف تحوَّل البرلمان ونوابه إلى مؤسسة لتوفير الخدمات والوظائف والمناصب عبر أدوات الابتزاز وعبر الصفقات التي تُبقي كراسي البرلمان والمناصب.

ومن المظاهر السيئة لوجود هذا القطاع كارثة الخلل في التركيبة السكانية، وعدم وجود العمالة الكويتية في القطاع الخاص إلا بنسبة ضئيلة، 15.6 في المئة، فيما تصل العمالة الوافدة بالقطاع الخاص إلى 84.4 في المئة، علماً بأن العدد الكُلي للعمالة غير الكويتية، باستثناء العمالة المنزلية، 1.678 مليون، وعدد العمالة الكويتية 476 ألفاً، وعدد العمالة المنزلية وما في حُكمها 786 ألفاً.

وقد عالجنا قضية تعديل التركيبة السكانية في مقالٍ آخر، ولا داعي للخوض فيه هنا. (راجع مقالنا في «الجريدة» 8/ 9/ 2023).

والمحصلة النهائية هي ضعف الخدمات، وتراجعها، وانشغال الحكومة، بوزرائها وكل مسؤوليها، بأمور تنفيذية، وملاحقة قضايا فنية وإدارية متشعبة تدير الرأس.

تصوَّروا لو تمَّت خصخصة المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية، وزير الصحة بدل أن يكون تحت مسؤوليته 66 ألف موظف، سيكون عددهم فقط 5000 موظف، وظيفتهم المتابعة والرقابة على المستشفيات، والمحاسبة، والتخطيط للتطوير، وإعداد تقارير ودراسات بذلك للمسؤولين. وكذلك وزير التربية، سيكون مسؤولاً عن سبعة آلاف موظف، بدل 130 ألفا بمدارسهم ومراكزهم وإداراتهم.

لذلك لا بد من حل أم المشكلات، لكي تزيح الحكومة عن كاهلها ثقل القطاع الإنتاجي المتخم بالمشكلات، والذي أدخلها وأدخل مؤسسات المجتمع في دوامة تلقف موارده البشرية والمادية، لتقذفها إلى المجهول، كما تفعل الثقوب السوداء.

back to top