التنين الصيني والعُقاب الأميركي... التكنولوجيا ودرب الحرير في قلب الصراع العالمي

نشر في 17-02-2025
آخر تحديث 16-02-2025 | 18:49
 د. بلال عقل الصنديد

خلال العقود الماضية، خاضت كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين مواجهات متعددة على عدة جبهات، بدءاً من الحرب التجارية، مروراً بالهيمنة التكنولوجية، وصولاً إلى إعادة تشكيل التحالفات الدولية ورسم ملامح النظام العالمي.

ومع دخول الذكاء الاصطناعي وتقنيات تحليل البيانات الفائقة إلى المعادلة، ظهرت متغيِّرات جديدة تهدد التوازن القائم، أبرزها بروز منصة DeepSEEK الصينية، التي أحدثت زلزالاً في وادي السيليكون، وأثارت قلق المستثمرين الأميركيين.

وفي موازاة ذلك، يتواصل التنافس، ولو بشكل خافت، على طريق الحرير الجديد، حيث تسعى بكين إلى توسيع نطاق نفوذها، فيما تتحرَّك واشنطن لإجهاض هذه الطموحات بكل الوسائل، بما في ذلك التحولات الجذرية التي يشهدها الشرق الأوسط حالياً.

عندما أعلنت الصين تطوير DeepSEEK، وهو نظام ذكاء اصطناعي متقدِّم ينافس كبرى التقنيات الأميركية في تحليل البيانات، والترجمة، والأبحاث العلمية، لم يكن الأمر مجرَّد إعلان عادي، بل كان بمنزلة ناقوس خطر لوادي السيليكون، إذ خلال فترة وجيزة من إطلاقه، تراجعت أسهم شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة، مثل: مايكروسوفت، وميتا، وغوغل، وإنفيديا، وسط مخاوف من فقدان ريادتها في هذا القطاع الحيوي.

ولفهم حجم التأثير، يكفي أن ننظر إلى ما حدث لشركة إنفيديا، الرائدة في تصنيع الرقائق الإلكترونية المخصصة للذكاء الاصطناعي، حيث خسرت مليارات الدولارات من قيمتها السوقية خلال أيام فقط من إعلان الصين قدراتها الجديدة. السبب الرئيسي وراء ذلك، هو أن DeepSEEK يعتمد على تطوير رقائق رخيصة، مما يعني أن بكين لم تعد تعتمد على التقنيات الأميركية، بل باتت منافساً حقيقياً لها.

ولم يكن الأمر مقتصراً على إنفيديا، بل امتد ليشمل شركات الخدمات السحابية، حيث أظهرت التقارير أن أنظمة الذكاء الاصطناعي الصينية تقدِّم أداءً مماثلاً أو أفضل في بعض الجوانب، مقارنة بنماذج OpenAI وGoogle DeepMind، مما دفع المستثمرين إلى إعادة تقييم مستقبل الشركات الأميركية الكبرى.

إحياء درب الحرير: معركة النفوذ

الصيني في أوروبا والشرق الأوسط

الواقع أن التكنولوجيا ليست الجبهة الوحيدة التي تشهد هذا الصراع المحموم، فمنذ أن أطلقت الصين مشروع الحزام والطريق عام 2013، سعت بكين إلى استعادة أمجاد طريق الحرير القديم عبر شبكة واسعة من المشاريع الاستثمارية التي تربطها بأوروبا، وإفريقيا، والشرق الأوسط.

لطالما اعتبرت واشنطن هذه المبادرة تهديداً مباشراً لنفوذها الجيوسياسي، خصوصاً مع سعي الصين إلى تعزيز وجودها في الشرق الأوسط، المنطقة التي اعتبرت ساحة نفوذ أميركية بامتياز.

لا يمكن فصل التحولات الجذرية التي يشهدها الشرق الأوسط عن هذا الصراع، فمنذ اندلاع الحرب في غزة، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، ومحاولات تثبيت خريطة الشرق الأوسط الجديد، أصبحت المنطقة ميداناً لمعارك غير مباشرة بين القوتين العظميين.

فمن جهة، تدرك الصين أن انخراطها الاقتصادي في المنطقة يمنحها أوراقاً استراتيجية قوية، لذلك عززت علاقاتها مع الدول المنتجة للنفط، ووسَّعت شراكاتها العسكرية مع بعض الدول الخليجية، فضلاً عن توسطها في اتفاق المصالحة التاريخي بين السعودية وإيران، مما عزز من دورها كوسيط عالمي بديل عن واشنطن.

من جهة أخرى، تعمل الولايات المتحدة على إعادة ضبط نفوذها في الشرق الأوسط، من خلال تحالفات جديدة، أبرزها اتفاقيات التطبيع الإسرائيلية - العربية المعروفة بـ «الاتفاقيات الإبراهيمية»، وتعزيز وجودها العسكري في البحر الأحمر والخليج، فضلاً عن محاولات الضغط على الحكومات العربية للحد من علاقاتها المتنامية مع بكين.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور الإسرائيلي في هذه المعادلة، إذ تعتمد تل أبيب بشكل كبير على التكنولوجيا الأميركية، لكنها في الوقت نفسه تدرك أهمية التعاون مع الصين، خصوصاً في مجال البنية التحتية والذكاء الاصطناعي، وهذا ما دفع واشنطن إلى ممارسة ضغوط متزايدة على إسرائيل للحد من تعاونها مع بكين، لاسيما في مشاريع حساسة، مثل ميناء حيفا.

في موازاة ذلك، قدَّمت بكين على المستوى الأوروبي عروضاً مغرية لدول في أوروبا الشرقية، مستغلة حالة التوتر بين بعضها وبين بروكسل، مما عزز موقعها كلاعب اقتصادي رئيسي في المنطقة. وقد شكَّلت صفقة ميناء بيرايوس في اليونان إحدى أبرز المحطات التي جسَّدت هذا التنافس، حيث استحوذت الصين على حصة كبيرة فيه، محولةً إياه إلى نقطة محورية في حركة البضائع الصينية نحو أوروبا. إلا أن واشنطن لم تبقَ متفرجة، إذ مارست ضغوطاً على أثينا للحد من نفوذ بكين في الميناء، بل شجعت دولاً أوروبية أخرى على إعادة تقييم شراكاتها الاقتصادية مع الصين.

مَنْ يربح الجولة القادمة؟

مع عودة الرئيس ترامب إلى المكتب البيضاوي، يبدو أن المرحلة المقبلة ستكون استمراراً واضحاً لصراع النفوذ المتصاعد بين التنين الصيني والعُقاب الأميركي، بوجه تجاري واقتصادي واضح.

ويبدو واضحاً أن الصراع بين الصين والولايات المتحدة لم يعد يقتصر على الحرب التجارية أو العقوبات المتبادلة، بل تحوَّل إلى حرب تكنولوجية، وجيوسياسية، واستراتيجية طويلة الأمد، ففي حين أن DeepSEEK قد يكون مجرَّد بداية لموجة جديدة من الابتكارات الصينية التي تهدد الشركات الأميركية، فإن معركة طريق الحرير لا تزال في أوجّها، وسط جهود حثيثة من واشنطن لإفشال المشروع أو تحجيمه.

العامل الأكثر حسماً في هذا الصراع سيكون التحولات في الشرق الأوسط، إذ إن نجاح الصين في تعزيز حضورها بهذه المنطقة سيمنحها قوة تفاوضية غير مسبوقة، فيما ستسعى واشنطن بكل السبل للحفاظ على تفوقها، حتى لو تطلَّب ذلك تغيير سياساتها، أو تصعيد المواجهة في ساحات أخرى.

ما نشهده اليوم هو إعادة تشكيل لخريطة القوة العالمية، حيث لم يعد الاقتصاد وحده هو الميدان الأساسي للصراع، بل أصبحت التكنولوجيا، والبنية التحتية، والتحالفات الجيوسياسية أدوات رئيسية في هذه المعركة الكبرى، معركة ستحدد ملامح القرن الحادي والعشرين في الفترة المقبلة.

* كاتب ومستشار قانوني

back to top