«مخيال معيوف» تناقش الهوية والانتماء للوطن
• عبدالهادي الجُميل يستلهم تفاصيل الرواية من واقع الحياة في الكويت
يستلهم الروائي عبدالهادي الجُميل تفاصيل روايته «مخيال معيوف» من واقع الحياة في الكويت، مُتتبعاً أحداثاً تاريخية وقعت قبل مئة عام، من خلال انتقاء نماذج وشخصيات سردية سهلة التكوين، لكن ثمة أموراً فنية وترميزاً في عمق الحدث والتفاصيل.
يتوغل الجُميل في عمق الصحراء تارةً، ثم يلج إلى الحاضرة تارةً أخرى، ولا يدع الأمور تسير على عواهنها، بل يحدِّد الهدف بدقةٍ متناهية، لتقديم ما يود قوله عبر هذه الأحداث المُتلاحقة.
تبدو عملية السرد سلسة، فالحوارات جاءت مُعبِّرة عن الفترة الزمنية التي يتناولها الكاتب، كما أن جهده واضح جداً في عملية التتبع التاريخي والبحث الدقيق، فهو لم يدع للمصادفة فرصة لتحديد أي كلمة أو عبارة في الرواية، بل جرى توظيف كل ذلك بجدارة وفق النسق الذي أراده.
سوء الطالع
الرواية تتبع قصة معيوف، الذي وُلِد في فصل الشتاء، حيث كان المطر يتساقط ضمن أجواء صعبة، وكان أهل الوليد يقطنون الصحراء في بيت شَعْر، البعض رأى أن سوء الطالع سيلازم هذا المولود، وسيكون نصيبه من الشقاء كبيراً جداً.
يفتتح الجُميل رواية «مخيال معيوف» بهذه الجملة: «أطلَّ من الظلام وجه امرأةٍ عجوز لها عينا غراب، تفحَّصت الجسد الغض، الشبيه بالأرنب الوليد، وهمست بصوت يشبه فحيح الأفعى: عنده اثنعشر إصبع في رجوله!». هذه الجملة تفوَّهت بها إحدى السيدات اللائي حضرن ولادة هذا الطفل، وحينما شاهدت المولود لاحظت الزيادة العددية في أصابعه.
همهمات النساء
ويمضي الروائي في سرد حكايته، لإيضاح الظروف التي صاحبت هذه الولادة، حيث التفتت القابلة العجوز بغضب، بحثاً عن صاحبة العبارة، لكنها كانت قد توارت في الظلام من جديد، فغطَّت القابلة قدمَي الوليد بغطاء سبق لها استخدامه في تغطية شقيقتيه عند ولادتهما قبل بضع سنوات.
أتى صوت الأم واهناً ومتقطعاً: «اشلون العليلة تجيب بزر صاحي؟». لم يعلِّق أحد، فكلّهن يعرفن مرض الأم الذي نهش ثدييها طوال ثلاثة أعوام. امتلأ المكان الضيِّق بآهات النفساء، وهمهمات النساء، ورائحة الولادة، وبكاء الرضيع، وزمجرة الرعد.
الهوية والوطن
يطرح العمل الروائي «مخيال معيوف» تساؤلات عديدة حول السعادة والفرح والانتماء للوطن والهوية، وكذلك مشاعر إنسانية أخرى، مثل: الخوف، والقلق.
وضمن هذه الأجواء، التي لم تكن سعيدة، وعلى عكس المتوقع عقب حدوث أي عملية ولادة سليمة حيث يسود الفرح، جاء في الرواية أن القابلة أعربت عن استيائها لما حدث، وحملت المولود، وقالت وهي تمده إلى أمه: رضعيه. في المقابل، لم تمد الأم يديها لتأخذه، وأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى، وقالت: «صدري يمتلئ قروحاً ودمامل، لو رضعته ما بيشرب غير سم».
سجّته القابلة بجانب الأم على فراش الولادة القطني، ثم أنزلت سراج الكاز المعلَّق على عمود البيت، ووضعته بالقُرب منهما».
رائحة شعر الماعز
خيَّم صمت عميق على المكان، جعل لارتطام قطرات المطر الكثيف على سقف بيت الشعر دوي كأنها حجارة قُذفت من مكان مرتفع. دنت ابنتا النفساء من فراشها، وعلى ضوء السراج المتراقص، أطلتا على شقيقهما الهزيل. وقفت الصغرى عند قدميه، ومدَّت يدها لرفع الغطاء عنها، فانحنت الكبرى نحو شقيقها، وطبعت قُبلة حانية على خده، بينما أصابعها تنتزع الغطاء من يد شقيقتها، وتُعيده على قدمي المولود.
حفزت القابلة الأم المنهكة، قائلة: «ريحة أول الصبيان شفاء لقلب الأم وأوجاعها، وما تنساها طول حياتها». تمتمت الأم: «ما خلَّت ريحة شعر الماعز المبلل مكان لأي ريحة ثانية».
يبدو أن ثمة شيئاً ما سيحدث، فكل الحوارات السابقة جاءت تمهيداً لما سيحصل، وفي هذه الأثناء صرخت، وكأنها ستلد طفلاً آخر: مختنقة. متى بيوقف المطر؟
تجاهلت القابلة سؤالها، وقالت بإصرار: «رضعيه وإلا بيموت». لهجت الأم بأنفاس متقطعة: «ماني مرضّعته، من بداية حملي فيه وأنا أدري إنه بيموت، إن نجا من دمي الملوَّث، ما ينجا من برد الشتاء. أيتام الصحراء يقتلهم الشتاء».
فحَّت من الظلام صاحبة عيني الغراب: «هذا المولود زايد عن الحاجة، مثل أصابعه الاثنين. أشرقت الشمس الذهبية الدافئة على بيوت الشعيب المبللة، وقد ازدادت نَفْساً، ونقصت أخرى!».
وتمضي الأحداث ضمن سياق من التشويق والإثارة ضمن ظروف صعبة تعيشها شخصيات العمل الروائي، لاسيما أن ثمة تشابكاً جميلاً نسج تفاصيله الكاتب بدقة متناهية بين شخوص العمل، حيث البدو والحضر والمسلم المسيحي. وقد أثرى هذا التنوع أحداث العمل، وأسهم الاختلاف بين الثقافات في تقديم حبكة فنية جميلة تعتمد على المفارقات، ولا تسير ضمن النسق المُعتاد.
المستشفى الأمريكاني وأشجار التل
على الغلاف، كتب الجُميل: «شعر معيوف بقربه من المستشفى الأمريكاني. ظن، منذ أن ركب اللوري، أنه قد ابتعد كثيراً، فإذا به على بُعد ثلاث دقات فقط. سيأخذه هذا الرنين الغامض إلى الأمريكاني». فكَّر معيوف، مستدركاً: «كان الرنين غامضاً خلال استماعه له كل صباح، آتٍ من بيوت البدو، وهو جالس على جذع شجرة الأثل المنحني، لكنه لم يعد غامضاً ما دام سيأخذه إلى إيفلين وآدم وتل السعادة. كلهم على بُعد ثلاث دقات متأنية ومنتظمة. واصل الركض وقد أزاح صوت الرنين الساحر أصوات احتكاك قدميه بالرمل والنباتات ولهائه ودوي دقات قلبه في صدره، ونداءات خلف من خلفه».
اختفت الصحراء والظلام وخلف، وبزغ المستشفى الأمريكاني وأشجار التل ووجه إيفلين من بين ثلاث دقات قوية متأنية ومنتظمة ثم عدة دقات ضعيفة ومتتالية.