ليس حجراً بل قصة وذاكرة
كلما بدأ حديث عن العمارة راح يسترسل فيما يشبه الشعر، فكل ما كان يلفظ به لا علاقة له بالأسمنت والأسقف وغيرها من مقومات البناء. لم تطل المسافة بين ذاك اليوم من شعر صادر عن مهندس معماري وبين لقاء أكثر قرباً لنعرف أنه من تلامذة حسن فتحي. هنا صرخنا «وجدتها» بل «وجدناها» فقد انشغلت تلك الثلة الصغيرة بالبحث عن إجابة لسؤال علق على أطراف أدمغتهم منذ ذاك اللقاء «كيف يكون المهندس المعماري شاعرا؟». تلك التلمذة على يد سيد المعماريين العرب حسن فتحي إجابة عن كل الأسئلة رغم أن بعضها بقي عالقاً لبعض الوقت.
ذاك اللقاء شرع النوافذ على مصاريع الأسئلة، بل والأبواب وكل الزوايا المظلمة. انغمس بعضنا في نبش ما خلف الجدران والأسطح والبيوت والمدن بحثا عن الحياة التي تسكنها. فالحياة ليست حكرا على البشر كما يتصور الكثيرون وهم يزلزلون الأرض تحت أقدامهم فوق مساحات من العشب أو الأزهار أو أن يقوم أحدهم بهدم منزل هنا أو بقايا جدار لسبب وحيد في رأسه أنه قد أصبح قديما وعلى كل ما هو عتيق أن يرسل إلى أقرب مقبرة!
كان طريق البحث ليس صعبا رغم أن الزمن قد سبق مرحلة صديقنا غوغل وغيره من محركات البحث. كانت المكتبات وهي الأخرى فضل بعضهم أو معظمهم من مدعي الحداثة فضلوا إعدامها أو رميها في أقرب سلة مهملات أو حتى حرق الكتب، وبعضهم باع ورقها ليستخدم في لف سندوتشات الفلافل والشاورما أو الخبز في المحلات الشعبية جدا. هناك بين اكتظاظ الكتب والدراسات والمجلات المتخصصة كان مفهوم أن للأمكنة ذاكرة قد تبلور، وهناك أيضا اكتشفنا أن المدن القادمة بهدف «تطوير وتحديث» حياة المواطنين ونقلهم من أحياء شعبية قديمة ومكتظة، كلها ضمن ربما سياسة طمس الذاكرة حتى وإن كان الكثير من القائمين على هذه المشاريع لا يدركون ذلك.
بعدها استهواني البحث فيما هو خلف المشاريع المعمارية وتاريخ المدن، ومنها مدينتي التي نشأت وكبرت ولعبت «السكينة» في أزقتها الضيقة أمام منزلنا القديم... منزل العائلة، حيث عشنا أكثر من ثلاث عيل في نفس البيت بحوشه الداخلي الواسع ودهليزه ومرجيحة التي يسميها أهل البحرين «دورفه»... مشرعة هي الذاكرة لذاكرة الأمكنة وخاصة الأكثر حميمية منها. لم تكن حمى المدن والمجمعات «الكمبوندات» قد بدأت في الانتشار، ولكنها ما لبثت أن أصبحت أكثر انتشارا من الفطريات. فجأة قطعت أشجار النخيل وهو أمر ليس خاصا بهذا البلد أو ذاك فقد قطعوا الكثير من الشجر ودفنوا البحر أيضا لتلك المدن القادمة من رحم «المدنية» و«التحضر» المرافق للعولمة.
أن تتوسع المدن لازدياد الكثافة السكانية أمر طبيعي وعادي جدا، وهذا ليس بخاص لمدننا العربية، ولكن أن يكون هناك خلف بعض ذاك التوسع طمس لذاكرة المكان التي هي نحن بتفاصيل تاريخنا الشفهي ربما، فهذا أمر آخر. فقد دفنت مدن قديمة بجدرانها وشوارعها وترابها وحجرها وكل القصص التي خزنتها تلك الحيطان التي تبدو صماء فيما هي لو نطقت لحكت قصصا وحكايات من الحب والحياة والضحك والفرح، والكثير من البساطة في حياة كانت تشبه الماء في نقائه.
استيقظت هذه الجزئية من الذكريات المندسة بين ضفاف العقل، عند تساقط أسئلة تلك الشابة الباحثة والتي تعمل على إنهاء مشروع الدكتوراه في إحدى الجامعات العريقة في بريطانيا وموضوعها المدن الإسكانية. طرحت بعض الأسئلة بعد أن سمعت أو عرفت أننا منذ أكثر من عقدين كنا قد بدأنا في عمل حول سيرة المدن التي كانت والنبش خلف تلك المرسومة فوق الورق واحدة خلف الأخرى وكلما قصوا شريط الأولى جرى الجري للثانية لتكون أكبر وأكثر امتدادا وتفاصيل أخرى ربما هي لدى أصحاب نظريات المؤامرة تبعد المقرب وتجعل الجميع أي كل قاطني هذه المدن الحداثية مجرد سكان وليسوا بجيران!! استفاضت في محاولة التعريف بمشروعها وكيف أنها ترى أن التوسع العمراني هو أمر مرتبط بالسياسة الكلية في أي بلد وهو ليس مجرد محاولة لإيجاد مساكن نتيجة لارتفاع معدلات الولادة وبتلك الكثافة السكانية التي تحدث اكتظاظا بالمدن القديمة فتشكل عبئا على كل بنيتها التحتية المنهارة أصلا. تقول هناك بعد سياسي لكل تلك المدن أو هكذا تبحث.
اللقاء انتهى والحديث لم ينته، وكأنها فتحت صندوقا من الأسئلة التي خرجت كالديدان، كل منها ترسل تفاصيل لما يجري هنا أو هناك، وتتزاحم كلها لتنتهي إلى نفس النقطة. إن للأماكن ذاكرة وهي أكثر حياة من كل الحياة نفسها، وهناك بالتأكيد بعضهم ربما يعمل على دفن الحجر وكل خربشات الذكريات عليه وإطفاء صوت قادم من تحت الغبار، يقول كنا هنا حيث الولادات المؤشرة على حياة قادمة بنفس عدد الوفيات التي تذكر بحياة كانت، فلا تهجروا الأمكنة ولا تجعلوا منها مجرد ذكريات أو حتى تحولوا كل المدن الحديثة إلى شكل أو نمط معماري واحد لا يملك أي ذاكرة، فهي، أي المدن الحديثة، كلها متشابهة متطابقة حد الملل، وكلها لا يسكنها إلا الكثير من الأشباح معتقدين أنهم يعيشون حياة أفضل!
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.