لأحزاب الطائفية: قلاع إسبرطية معاصرة

نشر في 09-02-2025
آخر تحديث 08-02-2025 | 18:47
 د. بلال عقل الصنديد

يرجع مفهوم «القلعة الإسبرطية» إلى مدينة إسبرطة القديمة، التي اشتهرت بنظام عسكري صارم، والتزام اجتماعي قوي، وانضباط تنظيمي وإداري، إذ تم إعداد المواطنين للقتال منذ نعومة أظافرهم عبر نظام «الأغوجي» الذي يعتمد على أساليب تعليمية وتدريبية حازمة، ساهمت في إعداد شباب مندفع وملتزم ومجتمع متماسك يخدم هدف الدفاع عن المدينة.

اتبعت إسبرطة أسلوب حياة متقشفاً، ليس فيه للمواطن أي طموحات بعيدة عن المصلحة العليا الجامعة، مما عزّز الانضباط والولاء والتماسك الداخلي وكرّس مفهوم «التضحية» من أجل فكرة سامية هي «الانتصار على الأعداء»، فمثّلت القلعة الإسبرطية القوة القتالية والإرادة التي لا تنكسر.

وعلى نفس النهج، بنت الأحزاب والميليشيات والتكتلات الطائفية والفئوية في منطقتنا العربية «قلاعاً» اجتماعية ودينية جامدة، تحت شعار الدفاع عن وجودها وحماية مصالحها، مما خلق بيئات مغلقة يصعب على الأفراد الخروج منها أو التحرر من ضوابطها أو الانتفاضة على قيودها، وأصبح من النادر رؤية خيارات تخالف أو تتعدى أيديولوجيات القوى المسيطرة.

معادلة التخوين والتسخيف:

يستهدف أسلوب «القلعة الإسبرطية» جعل الطائفة أو الفئة، بأفرادها المستقلين والمحازبين، تابعة مباشرة لتوجهات الحزب أو القوى المهيمنة، وذلك من خلال بناء جدران فكرية وأيديولوجية وتصنيف أي شخص لا يؤمن بها كخصم محتمل أو كرعاع لا يفهم «الواقع» و«التحديات» التي تواجهها «البيئة الحاضنة»، الى حد اعتبار الخارج عن السائد «خائناً» وربما «عميلاً» يستحق القتل أو النفي والعزلة في أحسن الأحوال!

ففي حين يملك كل مواطن الحق في اتخاذ موقف مستقل، يصبح صعباً على الأفراد داخل هذه البيئة المنغلقة التعبير عن آراء مختلفة أو الخروج عن النسق العام، تحت وطأة التسخيف أو التخوين، وفي هذا السياق، تقدم الأحزاب والميليشيات نفسها كخط الدفاع الأول عن الطائفة، حيث يُزرع الخوف المتنامي من المخاطر الداخلية والخارجية، سواء أكان ذلك حقيقياً أم وهماً، مما يجعل الحزب يبدو بمنزلة الحصن الأخير الذي يحمي الطائفة من التفكك أو الهجوم.

يقوم هذا الأسلوب على تعزيز فكرة «نحن أو الفوضى»، مما يدفع الكثيرين إلى الاصطفاف مع الحزب وخلف زعيمه بدافع حماية «البيت الداخلي»، الأمر الذي يساهم في صناعة بيئة مغلقة تلعب دوراً في اختزال الخيارات والقرارات.

التوجيه الديني والمعنوي:

من أنجع الأساليب التي تستخدمها الأحزاب الطائفية لتثبيت حضورها في الوجدان الشعبي، استغلال الشعارات الدينية والاعتماد على الميل الفطري للبشر نحو كل ما يرتبط بالولاء الديني، بهدف بناء نموذج طائفي شبيه بـ«القلعة الإسبرطية»، وتشكيل جماعات من المحازبين، تتمتع بالانضباطية، والتماسك، والولاء للقيادات الدينية أو «المتدينة» حقاً أو زوراً!

وهكذا، تقوم بعض الأحزاب الطائفية بتنشئة أعضائها منذ الصغر على مبادئ دينية واجتماعية صارمة، وتضع منظومة قيم وأفكار تحدد وتهدّد «الآخرين» من منطلق التمسك بالخصوصية الطائفية والدفاع عنها.

وفي السياق، تلعب وسائل الإعلام والدعاية دوراً حاسماً في بناء هذه «القلعة الإسبرطية»، اذ يتم استخدام وسائل الإعلام والدعاية التابعة للأحزاب كأدوات لزيادة التماسك الداخلي، من خلال تكرار سرديات التخوين والتخويف من «الآخر»، إذ يتم تصوير الأحزاب المعارضة أو الدول الأخرى بمنزلة تهديد وجودي يستلزم استدامة حالة الطوارئ الفكرية واستمرار حالة الشحن المعنوي، مما يبقي الأفراد على أهبة الاستعداد للوقوف خلف الحزب عندما يستدعيهم لذلك في أيام الوئام أو في أحوال الخصام.

اختزال الهوية الطائفية وتقدّم الانتماء الطائفي على الولاء الوطني:

تتسبب هذه الدينامية في جعل الطائفة بأكملها جزءاً من الهوية السياسية للحزب أو الميليشيا، بدلاً من أن تكون إطاراً اجتماعياً أو دينياً متنوعاً، ويصبح الفرد مجرد تابع للقرار الجماعي الذي تفرضه القيادة الحزبية، ما يؤدي إلى تراجع فرص التعبير الفردي وخلق ثقافة تعتمد على إقصاء المختلفين في الرأي.

وهكذا تختزل الطوائف ككتل متجانسة ومتراصّة تحت سيطرة الأحزاب، مما يعزز من الانقسام الطائفي ويفرض حواجز أمام الانصهار الوطني، ويصبح تأييد الحزب هو المعيار الأساسي للولاء، مما يجعل الهوية الوطنية تابعة للهوية الطائفية، لا العكس!

يبلغ الأمر مداه في الخطورة عندما يقرر البعض تخطّي أسوار القلاع الطائفية للالتقاء بالمواطنين الآخرين على أهداف مشتركة، مثل الدفاع عن المصالح الجماعية والسيادة الوطنية، وتحسين الاقتصاد، وإصلاح المؤسسات... إلخ، ساعتئذ تتأهب البيئة الإسبرطية وتتداعى مكوناتها المختلفة لتضع العقبة تلو العقبة أمام بناء حوار جاد بين كل من يسعى إلى تكريس الانصهار الوطني.

ما الحلّ؟

من النتائج الوخيمة لأسلوب «القلعة الإسبرطية»، الذي تبنته الأحزاب والميليشيات الطائفية، إيجاد شرخ عميق في بنية المجتمع وفرض طوق خانق على الطوائف، مما يجعل ضرورياً العمل العاجل على تفكيك هذه القلاع عبر تعزيز الانتماء لدولة قادرة على حامية ورعاية جميع مواطنيها بعدل وإنصاف.

ولمواجهة هذا النمط القاسي من الهيمنة، لا بد من تبني مقاربة جديدة تعمل على فك الحصار الأيديولوجي عن الطوائف، من خلال تعزيز قيم المواطنة المشتركة، والتركيز على العمل الوطني خارج إطار الأحزاب الطائفية.

وفي السياق تلعب وطنية وموضوعية وسائل الإعلام دوراً بارزاً في تقديم معلومات دقيقة ومناقشات بنّاءة، من شأنها كسر هالة التوجيه الإعلامي والضخ المعنوي اللذين تتبناهما الأحزاب، ومن ناحية أخرى يتبلور دور كل من المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية في لعب دور توعوي لحث الأفراد على التفكير النقدي وتشجيعهم على التعبير الحر، بما يضمن الحفاظ على التنوع داخل الطوائف بدلاً من تسليمها بشكل كامل إلى سيطرة الأحزاب.

تتعدد الانشقاقات والخطر واحد:

إن استمرارية الدولة ككيان دستوري ذي وظيفة رعائية يتطلب تجاوزاً لكل الانتماءات التي تتعارض مع الانتماء الوطني، وذلك مهما اختلفت مسمياتها أو تعددت صورها الطائفية أو القبلية أو الطبقية أو الإثنية، فالدولة وحدها هي الحصن المنيع الذي يضمن الأمن والأمان لكل المحتمين خلف أسوارها، ومؤسساتها هي الأكثر ضماناً لاستدامة الاستقرار والازدهار.

* كاتب ومستشار قانوني

back to top