القيادة الشابة رؤية جديدة لمستقبل الاستثمارات الكويتية
تُعد الهيئة العامة للاستثمار أقدم صندوق سيادي في العالم، وتُدير أصولًا تُقدّر بـ 969 مليار دولار وفقًا لمعهد صناديق الثروة السيادية، مما يجعلها أحد أكبر الصناديق السيادية عالميًا، ومع ذلك، فإن هذه الثروة الهائلة لن تُحدث تأثيرًا إيجابيًا حقيقيًا ما لم تُدر بكفاءة وشفافية، لكن مع تعيين قيادة شابة جديدة في الهيئة، تبرز فرصة استثنائية لإعادة صياغة السياسات الاستثمارية في الكويت. القيادة الشابة لا تُمثل مجرد تغيير إداري، بل تعكس توجهًا جديدًا يعزز الابتكار ويُعيد ترتيب الأولويات الاقتصادية، يمكن لهذه القيادة أن تُحدث تغييرًا جذريًا في طريقة إدارة الاستثمارات الوطنية، خصوصًا مع التحديات التي تواجه الاقتصاد الكويتي، فالاعتماد على النفط لتوفير حوالي 90% من إيرادات الحكومة يُظهر الحاجة المُلحّة لتنويع مصادر الدخل وتعزيز الاستثمارات في قطاعات جديدة ذات قيمة مضافة.
رغم ضخامة الأصول التي تُديرها الهيئة العامة للاستثمار، إضافة إلى المؤسسات السيادية الأخرى مثل مؤسسة التأمينات الاجتماعية، والهيئة العامة لشؤون القصّر، والأمانة العامة للأوقاف، التي تتجاوز أصولها مجتمعة التريليون دولار، فإن غياب التنسيق بينها يُضعف كفاءة استغلال هذه الأصول، وغياب الرؤية الموحدة والسياسات المتسقة أدى إلى قرارات متضاربة أثّرت على العوائد المتوقعة، وضياع الفرص البديلة، وأثار تساؤلات حول كفاءة الإدارة، المثال الأبرز على ذلك ما يحدث مع بنك الخليج، ففي العام 2008، تدخّلت الهيئة لإنقاذ البنك من أزمة مالية كادت تهدد استقراره، في خطوة حاسمة لحماية الاقتصاد الوطني والقطاع المصرفي، لكن تم التخارج من الحصة قبل 4 سنوات دون سبب أو رؤية واضحة، ثم عاد الحديث مؤخرًا عن شراء نفس الحصة عبر بنك حكومي، ما يُظهر غياب استراتيجية متماسكة تُوجه هذه القرارات نحو أهداف تنموية مستدامة.
غياب التنسيق بين الجهات الاستثمارية لم يكن مقتصرًا على قضية بنك الخليج، بل ظهر أيضًا في قضايا أخرى تتعلق بإدارة استثمارات كبرى، على سبيل المثال، في الاندماجات وعمليات التخارج من بعض الشركات المحلية والعالمية في وقت غير مناسب أثرت على العوائد المتوقعة، وضياع الكثير من الفرص البديلة، كما أن غياب خطة استراتيجية واضحة جعل بعض القرارات تبدو متسرعة أو غير محسوبة العواقب.
غياب التنسيق بين هذه المؤسسات يُبرز الحاجة إلى إنشاء جهة مركزية مرجعية مستقلة عن الجهاز التنفيذي تُشرف على جميع الجهات الاستثمارية، الهدف من هذه الجهة ليس فقط ضمان التنسيق بين المؤسسات المختلفة، بل أيضًا توحيد الرؤية الاستثمارية لتكون متوافقة مع رؤية «كويت جديدة 2035»، التي تهدف إلى تحويل الكويت إلى مركز مالي، ويجب أيضًا أن تركّز هذه الجهة على تعزيز الحوكمة، وتحقيق الشفافية، وإعداد تقارير دورية تُظهر أهداف القرارات الاستثمارية وعوائدها على المديين الطويل والقصير، إضافة إلى ذلك، يُمكن لهذه الجهة أن تستثمر في القيادات الشابة، وتأهيلها لإدارة وتطوير السوق المحلي، التي تُعد عنصرًا أساسيًا في تعزيز الابتكار ودفع عجلة التطوير المؤسسي، فمن الضروري تحويل دور جهات الاستثمار المحلية من الاستثمار الخامل شبه الغائب، للعب دور نشط يسعى للعمل بجد واجتهاد لتطوير اقتصادنا المحلي، فهناك فراغ إداري يتطلب تدخلًا في الاستثمار بالكوادر الوطنية وتأهيلها، ثم دعمها وتمكينها.
تجارب الدول الأخرى تُظهر كيف يمكن للصناديق السيادية أن تكون أداة قوية لتحقيق النمو والتنمية. على سبيل المثال، نجحت النرويج في تحويل صندوقها السيادي إلى نموذج يُحتذى به عالميًا، إذ يُدار باستقلالية وشفافية عالية، ويُركز على تحقيق استدامة طويلة الأمد للاقتصاد، والمملكة جعلت تطوير صندوق الاستثمارات العامة PIF ركيزة مهمة في رؤية 2030، الذي تحول لمصنع لجذب الطاقات وتطوير الكفاءات المحلية، توحيد المرجعية الاستثمارية ليس فقط خطوة إدارية تنظيمية، بل هو أيضًا أداة فعّالة لتعظيم العوائد وتقليل التداخل في القرارات، دول مثل النرويج وسنغافورة نجحت في تحقيق ذلك من خلال إنشاء جهات مستقلة تُدير استثماراتها السيادية بكفاءة، مع تركيز على الاستدامة والتنمية الوطنية، يمكن للكويت أن تستفيد من هذه التجارب لإنشاء نموذجها الخاص الذي يُراعي خصوصية الاقتصاد الكويتي.
إلى جانب تحسين إدارة الاستثمارات، تحتاج أسواق المال الكويتية إلى إصلاح شامل للمنظومة الرقابية والقانونية والإشرافية، ورغم الإنجازات مثل ترقية بورصة الكويت إلى سوق ناشئ، فإن هناك معاناة للمستثمرين من تعقيد اللوائح وتباين تطبيقها بين الشركات.
هذا لا يقتصر على الشركات الصغيرة فقط، بل يمتد إلى الشركات الكبرى التي تحصل أحياناً على معاملة استثنائية، لذلك يجب أن تركز الإصلاحات على إزالة هذه التباينات وتعزيز العدالة في التطبيق، فهناك حاجة ماسة لتطوير مستمر اللوائح بما يتماشى مع المتغيرات العالمية والداخلية، التعلم والاستفادة من التجارب السابقة والفارقة، وتحديث القوانين وتعزيز الشفافية والحوكمة وتطوير أدوار مجالس الإدارة والأعضاء المستقلين، يمكن أن يُعزز من جاذبية السوق للمستثمرين الأجانب والمحليين على حد سواء، ويجب أيضًا وضع طرق واضحة تمنع تضارب المصالح والتداولات بناء على معلومات داخلية، وتجبر مجالس الإدارات والإدارات التنفيذية على التواصل الشفاف والمستمر مع المستثمرين، علاوة على أن إدخال التكنولوجيا الحديثة لتحسين الرقابة على التداولات سيُسهم في تعزيز الشفافية وتقليل المخاطر المرتبطة بالممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية.
التنسيق بين الجهات الرقابية مثل البنك المركزي، وهيئة أسواق المال، وجهاز حماية المنافسة يُعد من الأولويات، فالعمل المستقل لهذه الجهات قد يؤدي إلى تداخل في القرارات أو تضارب في الأدوار، الذي تكرر للأسف كثيراً في السنوات الماضية، خصوصاً في الصفقات الكبرى، فالمطلوب هو إنشاء آلية فعالة تُوحّد جهود هذه الجهات وتُحدد صلاحياتها بشكل واضح، هذا التنسيق لا يُحسن فقط من بيئة السوق، بل يُعزز أيضاً ثقة المستثمرين، وهي العامل الأساسي لجذب المزيد من الاستثمارات إلى الكويت.
الثقة بين المستثمرين لا تُبنى فقط على أساس القوانين، بل تحتاج إلى سياسات شفافة وممارسات رقابية عادلة وحصيفة، من المهم تحسين الإفصاح عن العمليات الكبرى مثل الاستحواذات والتخارجات، وفرض عقوبات صارمة ورادعة على المخالفين، وتحليل الأخطاء السابقة لاستخلاص الدروس وتجنب تكرارها، مثل هذه الإجراءات تُظهر التزام الكويت بالحوكمة الرشيدة، مما يجعل السوق أكثر جاذبية للمستثمرين.
إلى جانب تحسين بيئة الاستثمار، يجب أن يكون هناك تركيز واضح على القطاعات الواعدة ذات القيمة المضافة التي تُسهم في تنويع الاقتصاد، خصوصاً التي تُسهم في تطوير البنية التحتية وخلق فرص عمل جديدة للشباب، الاستثمار في هذه المجالات يُحقق قيمة مضافة ويُسهم في استدامة الاقتصاد الوطني، مما يجعلنا في طليعة الدول التي تعتمد على الابتكار لتحقيق النمو.
الكويت اليوم أمام مفترق طرق. القيادة الشابة الجديدة تُقدم فرصة ذهبية لإعادة التفكير في السياسات الاستثمارية وتطويرها بما يُحقق رؤية الكويت 2035. إنشاء جهة مرجعية موحدة للاستثمار، وتطوير اللوائح التنظيمية والرقابية، وتعزيز الشفافية والعدالة في تطبيق القوانين، يُمكن أن يُحدث تحولًا كبيرًا في المشهد الاقتصادي.
المستقبل يتطلب إرادة قوية وخطوات جريئة لتحويل التحديات إلى فرص حقيقية، القرارات التي تُتخذ اليوم ستكتب فصولًا جديدة في تاريخ الكويت الاقتصادي. دعونا نستغل هذه اللحظة التاريخية لبناء اقتصاد قوي ومستدام يجعل الكويت في طليعة الدول الرائدة في إدارة الاستثمارات السيادية وتنظيم أسواق المال.
* د. سعود أسعد الثاقب
قسم التمويل في كلية العلوم الإدارية - جامعة الكويت
[email protected]
@salthajeb تويتر