هناك في حظيرة العبيد كثير من الأحرار! *

نشر في 27-01-2025
آخر تحديث 26-01-2025 | 20:28
 خولة مطر

طوال عام أو أكثر علمونا هم وهم تحت الركام معنى الحياة والحب، بل علمونا أن الحياة ليست حقيبة يد أو سيارة فارهة أو وجبة دسمة في مطعم فاخر... كل ذلك علمونا إياه، بل أكثر منه عرفنا أن الحياة لا تنتهي إذا امتنعنا عن شرب تلك القهوة الشهيرة عالمياً، أو عن ذلك «الهمبرغر» أو ذاك المشروب أو حتى رقائق البطاطس المحمرة أو غيرها وغيرها، حذاء هنا، وفستان هناك، وكثير من الأكل والشرب، مما يدعو إلى الغثيان لو فكر المرء فيه مرة ببعضٍ مما أعطاه الخالق من عقل!

يبدو الأمر شديد الخفة، بل التفاهة وأنتم تنفضون عنكم موتاً وقتلاً وحطاماً وركاماً استمر أكثر من عام من حرب الإبادة التي وقفتم أنتم لها وحدكم، رغم مساندة المقاومين في لبنان واليمن، في حين وقف العالم يتفرج على إبادتكم لحظة بلحظة والعدسات تتابع وترصد وتصور وتسجل رصاصة في رأس الطفل محمد ذي الأعوام العشرة، ثم عشرات الرصاصات التي تخترق جسده الطري لتمزقه، والموت أكثر حضوراً من الحياة يطارد الأطفال والنساء والرجال وكل حياة هناك... والعالم شديد الحساسية يراقب ويتابع.

علينا أن نعترف أن عالماً بعيداً كان أكثر رحمة ورفقاً وتضامناً من القريب الغارق في همه وخوفه ووجعه... الخوف ذاك المرض، بل الوباء المزمن الذي استشرى في كثير من عظامنا حتى أصبح جزءاً أساسياً من حياتنا، فكثيرون منا يخافون من الخوف! أليس الأمر مرعباً حتى عندما يزول مسبب الخوف ويبقى الخوف هو الأكثر حضوراً إلا عند أهلنا في غزة، فهم من قام بكسره ودفنه لأجل غير مسمى؟

من تحت المشهد المرعب تخرجون أنتم أو مَن تبقّى منكم تبعثون كثيراً من الأمل والحب رغم الدمار والجوع والموت والعطش الذي عشتموه وعاشه أهلكم تكتبون دون أن تخطوا حرفاً، وتتحدثون دون أن تنطقوا بكلمة، وتمضون بعيداً ترسمون عالماً يعلّم الكون معنى الحق والعدالة والإنسانية في زمن صار بعض البشر يثير المخاوف من أنها نهاية البشرية، والكذبة الكبرى أن هناك قيماً وحقوقاً عالمية، وأن هناك دولاً وحكومات وشعوباً تدافع عنها! فجأة نسفت كلها، بل وأصبحت موضوعاً للتهكم والسخرية من كثيرين على وسائل التواصل الاجتماعي.

سقط القناع، بل كل الأقنعة أو ربما هي الأكاذيب وبقي الموت هو الأكثر حقيقة وحضوراً من الحياة التي يقولون كلهم إنهم يدافعون عنها ويعملون من أجلها ويعاقبون ويكافئون ويحبون ويكرهون ويقتربون ويبتعدون من أجلها، أي من أجل العدالة في الحياة، هذه كذبتهم ولا تزال، بل ما زال بعضنا بل كثيرون منا يطرحون السؤال «أين حقوق الإنسان؟» ويكملون بسلسلة من الأسئلة كلها مرتبطة بقوانين وتشريعات ومنظمات سُميت دولية، وهي في مجملها ربما بدأت بكثير من النوايا الحسنة ربما، ولكنها في مجملها انتهت لتكون جزءاً من ذاك النظام الكوني غير العادل، بل النظام الكوني الظالم إلى حد الإبادة.

يرفعون الأصابع والأصوات عالياً منددين بالظلم هنا، في حين يتجاهلون الظالم الجار هناك، ويكثرون من التهديد والوعيد، بل كرسوا لأنفسهم وضع مسطرة للعقاب والثواب هم أنفسهم الذين في لحظة بل أقل منها يحولون الظالم إلى بطل قومي أو عالمي يرسمون البشر كما يفعلون بالممثلين في أفلام «هوليوود»، كلها أفلام وكلنا مجرد كومبارس أو ممثلين غير أساسيين في التمثيلية الدولية، إلا أهل غزة ولبنان واليمن الذين علموهم أن هناك في حظيرة العبيد بعض الأحرار جداً... نعم هناك أحرار في غزة راحوا في الأيام الماضية يصيغون قوانين وتشريعات ومفاهيم حقيقية للعدالة والإنسانية، ويعلمون البشر فن أن نكون أعداء بعدل وإنسانية، نعم أن تعادي مَن استعمر أرضك وبيتك وأهلك وتُبقي على إنسانيتك، ليتهم يعلموننا جميعاً، بل ليت ما فعلوه يُدرس لأطفالنا في مدارس لا يعمل أغلبها إلا على تكريس العبودية والظلم!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

back to top