ديون سورية غير المشروعة
يعتبر مبدأ نقل التزامات الديون عند تغير أنظمة الحكم من القضايا التي يثور حولها الكثير من الإشكاليات، حيث إن القاعدة العامة في القانون الدولي هي انتقال حقوق والتزامات الأنظمة السابقة إلى الأنظمة اللاحقة بصورة كاملة، وبالتالي يتوجب على الحكومات المتعاقبة، خصوصاً تلك التي تأتي من خلال انقلابات أو ثورات أن تؤكد التزامها بكل المعاهدات والاتفاقيات الدولية، سعياً لحماية الاستقرار في العلاقات الدولية خصوصاً القانونية منها وتجنّب حدوث حالات من النزاع تشكل تحديات هي في غنى عنها، فضلاً عن أن المركز القانوني للدولة لا يتأثر بتغير نظام الحكم، إلا أنه بنفس الوقت يفترض بتصرفات الحكومات المتعاقبة أن تكون لفائدة الشعب ولمصلحة الدولة بوصفها ظاهرة سياسية دائمة، على عكس الحكومات باعتبارها ظواهر سياسية مؤقتة ومتغيرة.
ويفرّق فقهاء القانون الدولي بين نوعين من ديون الدول، الأول هو الديون العامة المتعلقة بالدولة وشؤون التنمية فيها، أما النوع الثاني فيسمى بالديون الخاصة والمتعلقة بالنظام الحاكم التي تتسم تصرفاته بالفساد والمغامرات الشخصية البعيدة عن مصلحة الشعب والدولة، ويطلق عليها بالديون الفاسدة أو البغيضة (Odious Debts) وهو ما أشارت إليه المادة 50 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969.
وظهرت مسألة الديون البغيضة في نهاية القرن التاسع عشر خلال الحرب الأميركية - الإسبانية، بينما أسست معاهدة فرساي لنظرية الديون البغيضة في المادة 254 التي أعفت بولندا من ديونها لمصلحة ألمانيا.
وفي السياق نفسه، صدر قرار تحكيمي عام 1923 في قضية (تحكيم تينوكو) حيث اعتبر المحكم (وليم كافت)، وهو كبير قضاة المحكمة العليا الأميركية، أن القروض التي تقدم -عن علم- لمصلحة ديكتاتور وقام باستخدامها لمصالحه الشخصية تكون غير قابلة للتحصيل.
وقد ظهرت نظرية الديون البغيضة بشكلها القانوني في العقد الثالث من القرن الماضي في كتاب «آثار تحولات الدول على الديون العمومية وغيرها من الالتزامات المالية» للقانوني الروسي ألكسندر ساك، الذي استند إلى قيام الحكومة البلشفية في روسيا بإلغاء ديون الدولة القيصرية، ونصت النظرية على أن قيام الأنظمة الاستبدادية الفاسدة بإبرام اتفاقيات قروض بهدف تقوية سلطاتها وقمع أفراد الشعب الذين يقاتلون ضدها، يجعلها قروضاً بغيضة لذلك الشعب، وهو يشكل التزاماً خاصاً بذمة النظام، وليس التزاماً على الدولة أو الشعب الذي يعتبر دائناً بريئاً ويجب حمايته، من خلال إعفائه من ذلك الدين البغيض الناتج عن القهر والاستبداد.
ويرى العديد من الفقهاء ومنهم د. عبدالله الأشعل أن اتفاقيات الديون البغيضة قابلة للإبطال، إذ يحق للحكومات الجديدة أن تتخذ موقفاً جوهرياً يتعلق برفض الوفاء بتسديد الديون البغيضة على اعتبارها قروضاً شائنة ومستندة إلى تواطؤ بين الحكومات السابقة وبين الدول المقرضة، خصوصاً أن القانون الدولي قد أكد في اتفاقية فيينا للمعاهدات أن إبرام كل المعاهدات بين الدول يقوم على أساس الشفافية وحسن النية، ومنحت المادة 62 من الاتفاقية للطرف الذي يحتج بحدوث تغيير جوهري في الظروف الحق باعتبار ذلك أساساً لانقضاء المعاهدة أو الانسحاب منها.
كما أشارت المادة 53 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات إلى بطلان البنود التي تخالف القواعد الآمرة في القانون الدولي، وأهمها حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحظر شن الحروب العدوانية، وحظر التعذيب، وحظر ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وفي الحالة السورية سيكون من السهولة لدى الدولة السورية إثبات توفر عنصر العلم لدى الدول المقرضة بمخالفة القواعد الآمرة للقانون الدولي وقت إبرام اتفاقيات الديون معها.
وعليه فإن الديون البغيضة هي ديون غير مشروعة لا يجوز إلزام الدولة المقترضة بتسديدها، بسبب مخالفتها للقوانين الوطنية والمعايير الدولية، فضلاً عن افتقادها الشفافية والمشاركة والمراقبة والموافقة الشعبية وانعدام المصلحة العامة اثناء إبرامها.
وفي الحالة السورية، أرى أنه من حق الدولة كخطوة أولى التنصل من تسديد تلك الديون على اعتبارها ديوناً بغيضة استخدمت ضد مصلحة الشعب السوري، وفي حال إصرار تلك الدول على المطالبة بتلك الديون يتوجب كمرحلة ثانية الدخول معها بمفاوضات سياسية لمحاولة إقناعها بإسقاط تلك الديون أو شطب جزء كبير منها وجدولة ما تبقى، مع ضرورة الاستفادة من خبرات المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي للمساعدة في التعامل مع الموضوع.
* مستشار قانوني وأستاذ جامعي لندن