انتصار فوق الأنقاض

نشر في 24-01-2025
آخر تحديث 23-01-2025 | 21:21
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

لا شك في أن فاتورة الحرب العسكرية مُكلفة جداً، ففيها خسائر بشرية ومادية باهظة لا تُعوَّض، وقد تترتب عليها خسائر اقتصادية وجغرافية وغيرها. وقد تكون خسائر المُحتل المنتصر عسكرياً أكبر بكثير مما أخذه بالقوة!

إن أقل ما يمكن حسابه من مجموع الخسائر الناتجة عن التدخل العسكري، هي الخسائر المادية، الناتجة عن تحريك الآلة العسكرية. لهذا السبب تحوَّلت معظم الحروب إلى معارك «باردة»، تستهدف العقيدة، والهوية، والدِّين، والقيم، والاقتصاد، والتجارة، والصناعة، والغذاء. فمَنْ مَلَكها ملك العالم بسطوته «الناعمة».

لهذا السبب نرى أن التدخل العسكري هو آخر الخيارات، لأن الخسارة فيه واقعة على الطرفين لا محالة، حتى في حال التقدُّم أو التفوق العسكري على الخصم، فإن تشغيل الآلات العسكرية وإعداد الجيوش وتحريك الدبابات والطائرات واستهلاك الذخائر والصواريخ، أمر يستنزف ميزانية الدولة.

والسؤال المهم: إذا كانت الحرب العسكرية خسارة لكلا الطرفين، فما الذي خسره اليهود؟ وماذا خسر المسلمون؟ وهل الخسارات متساوية؟

بالنسبة لخسارة المسلمين، فقد أُبيدت مباني غزة عن بكرة أبيها، وتحوَّلت إلى أنقاض غير قابلة للعيش والسكن، وهي خسارة مادية ثقيلة جداً، لكنها خسارة قابلة للعوض بأحسن مما كانت عليه، بإذن الله. أما خسارة الأرواح، فهذه تسمَّى شهادة وجهاداً ﴿وَلا تَحسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ أَمواتًا بَل أَحياءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقونَ﴾، ولا يليق بفهم المسلم أن يسميها خسارة!

أما الجانب الصهيوني، فقد حدَّد أهدافه، وبذل كل القدرات العسكرية والعدة والعتاد، وفُتحت له كل خزائن قارون، ولم يصل إلى مبتغاه، ولم يحرر أسيراً واحداً بالقوة، ولم يقض على حركة حماس، بل إن غزة كلها تحوَّلت إلى «حماس»، وأثَّرت على العالم الخارجي الأجنبي، فأصبح كل أحرار العالم يرفضون وجود الاحتلال الإسرائيلي، وبانت القضية على أصولها، كما يريد أصحاب الأرض، فهي صراع بين الحق والباطل، وأصبح لا مكان للكيان الصهيوني في قلوب الأحرار، وتحوَّل كل أحرار العالم إلى مقاومة فلسطينية، وانتفضوا لنصرة الحق بالتظاهرات والمقاطعات، وعبَّروا عن غضبهم في معظم المحافل والمناسبات والإعلام. يقول الشارع الغربي: «غزة حررت العالم». فهي صاحبة فضل علينا.

وهذه أكبر خسارة لليهود، الذين باتوا مهيمنين بأفكارهم على العالم لسنين طويلة.

عزيزي القارئ، إن الصمود في وجه أكبر ترسانة عسكرية في العالم شيء لا يتصوَّره عقل. إن يأس أكبر دولة عظمى، بأساطيلها، وجيوشها، وكل طاقاتها، من غزو قطعة صغيرة مسطحة، يُعد هزيمة نكراء لا مثيل لها. فقد كسر الله أنوف الطواغيت بهذه الثلة الصابرة المؤمنة، التي ذاقت كل أنواع البلاء، وأظهرت للعالم هذا الصبر المعجز. فافرحوا بنصركم يا أهل غزة، وليفرح معكم كل أحرار العالم.

back to top