خطاب القسم لرئيس الجمهورية اللبناني

نشر في 19-01-2025
آخر تحديث 18-01-2025 | 19:52
 د. بلال عقل الصنديد

يشكل خطاب القسم للرئيس اللبناني المنتخب مناسبة مهمة لعرض رؤيته المستقبلية وخطته للعهد الجديد، فالخطاب لا يقتصر على كونه مجرد تصريح عابر أو تقليدي يخاطب فيه الرئيس بإطلالته الأولى الرأي العام ونواب الأمة، بل هو وثيقة لها دلالات دستورية وسياسية عميقة على مستوى السلطة التنفيذية في لبنان، ولاسيما أن تطبيقه يرتبط منطقياً بالصلاحيات الدستورية التي اختلفت بعد «اتفاق الطائف» عن واقع ما سبقه.

قبل دستور 1989، الذي خرج من رحم اتفاق الطائف، كان لبنان يتمتع بنظام سياسي شبه رئاسي، حيث كانت صلاحيات الرئيس تتجاوز بكثير ما هي عليه اليوم، ساعتئذ كان خطاب القسم بمنزلة إعلان تفصيلي للخطة التنفيذية التي سيتبعها الرئيس انطلاقاً من أن قراراته كانت غالبًا فعالة في تنفيذ الرؤية التي يتبناها، وعليه لم يكن مستغرباً أن يكون خطاب القسم أكثر تحديداً وأوسع شمولية لكثير من التوجهات والخطوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية التي يرغب الرئيس بتنفيذها من خلال وزرائه في الحكومة، أما بعد اتفاق الطائف فتحول لبنان إلى نظام سياسي بتوجه برلماني واضح، تقلّصت فيه صلاحيات رئيس الجمهورية، وأصبحت السلطة التنفيذية الفعلية منوطة بمجلس الوزراء مجتمعاً برئاسة رئيس الحكومة، الأمر الذي جعل خطاب القسم أكثر تعبيراً عن الرؤية السياسية العريضة التي يتبناها العهد الجديد، في حين يترك للبيان الوزاري، الذي يتبناه مجلس الوزراء ويأخذ على أساسه ثقة مجلس النوّاب، التفاصيل الإجرائية والخطوات التنفيذية التي تعد الحكومة بتحقيقها.

ما قبل الطائف كان رئيس الجمهورية هو رأس هرم السلطة الإجرائية بصلاحيات محددة وفاعلة، وما بعد الطائف اقتصر دور الرئيس على حضور معنوي يساهم في انضباط المنظومة الدستورية والمحافظة على التوازن الطائفي والسياسي الدقيق، ولاسيما لأنه يمثّل مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع اللبناني، وكونه منوطا به ممارسة دور الحَكَم بصفته المقسم على صون الدستور وحماية سيادة لبنان واستقلاله، دون أن يكون له مكنة التدخل المباشر في التفاصيل التنفيذية اليومية، إلا من خلال تأثير سياسي متعدد الصور.

ويأتي خطاب القسم الذي ألقاه مؤخّرًا رئيس الجمهورية المنتخب العماد جوزيف عون ليحمل في طياته وتوقيته أهمية خاصة، مما لفت اليه الأنظار محلياً وخارجياً، ولاسيما أنه أتى في مرحلة تحوّلات مفصلية إقليمياً، وبعد فراغ دستوري امتد لأكثر من سنتين، وعقب عدوان مدمّر تعرض له الشعب اللبناني الذي يعاني أصلاً أزمات اقتصادية ومالية حادّة وتحدّيات سياسية واجتماعية مختلفة.

تضمن الخطاب عبارات غير إنشائية ومحددة الاتجاهات والأهداف، مما لاقى ترحيب كثير من الأطراف المحلية والخارجية من جهة، وأدخل البعض الآخر في حالة ترقب وبعض الحذر بالنظر الى الموضوعات التي تطرق لها بشكل واضح وصريح من جهة أخرى، ومن أبرزها:

- التأكيد على احتكار الدولة لحق حمل السلاح، مع تعزيز دور الجيش اللبناني في ضبط الحدود ومحاربة الإرهاب وتطبيق القرارات الدولية.

- التزام لبنان بسياسة الحياد الإيجابي، وإقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية الشقيقة، وبناء شراكات استراتيجية مع دول المشرق والخليج العربي وشمال إفريقيا، والدخول في حوار جدي وندّي مع سورية لمناقشة كل الملفات العالقة، بما في ذلك ملف المفقودين والنازحين السوريين، وضبط الحدود بين البلدين.

- التأكيد على رفض توطين الفلسطينيين، مع فرض سلطة الدولة كاملة على المخيمات الفلسطينية.

- التعهد بالعمل على تعزيز استقلالية القضاء ومنع التدخلات السياسية فيه، مع التأكيد على عدم وجود أي حصانة للمجرمين أو الفاسدين.

- العمل على تحقيق اللامركزية الإدارية وإعادة هيكلة الإدارة العامة، بما في ذلك المداورة في وظائف الفئة الأولى، بهدف تحسين كفاءة المؤسسات وتقديم خدمات أفضل للمواطنين.

ويتبدّى للمراقب أن هذا الخطاب، اللافت بتعابيره ولهجته، والمتضمن خريطة طريق تهدف إلى تعزيز سيادة الدولة، ومكافحة الفساد، وتحسين العلاقات الخارجية، مع التركيز على دور المؤسسات الرسمية في حماية البلاد وحفظ أمنها، قد يحول بينه وبين تحقيق مراميه، عدة عراقيل سياسية تستند الى عدم وجود صلاحيات دستورية حقيقية للرئيس، الأمر الذي يضطره (ربما) لأن يقع في فخ التنازلات البراغماتيكية مقابل تحقيق بعض الإنجازات التي ستبقى، بلا شك، ناقصة وغير حقيقية في حال لم يستمر الدعم الخارجي والمحلّي للرئيس كما كان واضح المعالم لحظة انتخابه وما قبلها.

من الواضح أن خطاب القسم للرئيس المنتخب تعدى مجرّد الرؤية الشخصية ومسألة الاستفادة الذكيّة من اللحظة السياسية المناسبة، بل هو دعوة مفتوحة لجميع الأطراف السياسية للانخراط في مشروع بناء الدولة، الأمر الذي يجعل النجاح رهناً بالقدرة على تشكيل حكومة قادرة على العمل بشكل متناغم، وعلى رئيس وزراء لا يعارض توجهات الرئيس أو يضع العراقيل أمام تنفيذ سياساته، وعلى قوى سياسية تتواضع من أجل مستقبل حقيقي لا موهوم للأجيال القادمة، والى مجلس نواب لا يكون عمله الأساسي تعطيل الاستحقاقات الكبرى وإفشال الأجندات الوطنية.

إن بناء دولة حقيقية يتطلب تكاتف الجميع ووضع المصالح الوطنية فوق المصالح السياسية الضيقة، وكلما شهد الوضع في لبنان انقساماً حادًا بين القوى السياسية وشروخاً واسعة في المجتمع وبين مكوناته الطائفية، انخفض سقف الطموحات ببلوغ دولة المؤسسات الجامعة، مقابل ارتفاع منسوب الفوضى الوطنية المرتكزة على تقاسم المكاسب وتوزيع المناصب.

اذا نجح الرئيس في لجم الشاذين عن التوجهات الوطنية والرؤية الدولية، فإن تحقيق وعود خطابه كفيل برفع لبنان من هاوية الانهيار الى مصاف الاستقرار والازدهار.

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top